بالتأكيد أنا الطارئ في هذا المكان فكلّ مكوّناته لا تمتّ بصلة لما هو كائن هنالك حيث روحي في مكاني الأوّل.
هذه الأبنية الشاهقة بخوارجها ودواخلها وحتى بطرازها المعماريّ هي أكثر فخامة وأناقة لكنّها بلا روح وأحياناً أشعر أنها عدائيّة وليست بأليفة ولا ودودة، وهذه الأشجار التي لا أعرف اسمها ولا تعني في تاريخي شيئاً، ليس لدي أيّة ذكريات معها، حتّى الطيور هنا غريبة عنّي وأنا غريب عنها. الناس هنا لا يشبهون ناسي هناك، أرى الفرح في كلّ تفاصيلهم في مشيتهم بقامة منتصبة في ألوان ثيابهم في وميض عيونهم لكنّهم لا يعنون لي شيئاً، ومؤكّد أنّني لا أعني لهم شيئاً، لا تربطني بهم أيّ مشاعر مهما كان نوعها، لم تكن مرابع طفولتي ولا تكوّنت أحلام يقظتي معهم.
هنا لم أركض مع الصبية وأتعثّر، ومن ثمّ أبكي حتّى ولو بعضاً من مشاعر الكراهية لا أكنّها لأحد.
أنا هنا كائن متشيّئ، أتساوى مع الأشياء، بالكاد أستطيع أن أعرف في أيّ مكان أنا، أو أن أسأل عن مكان ما، وحتّى عن أيّ شيء، فلغة القوم ليست لغتي، وما تجود به الطبيعة هنا يختلف تماماً عنه في مكانيَ هناك.
يبدو لي منظر ما يؤكل هنا جميل مغلّف باعتناء لكنّني عندما أتذوّقه أزفر آهة وحسرة، فهو لا يمتّ بأيّة صلة لما كنت أحبّ، وأتلذّذ بمذاقه هناك، نعم هناك في مكانيَ الأوّل حيث الألفة وكلّ المشاعر بكلّ ألوانها تنتشر في كلّ جزيئات الهدوء من حولي أستنشقها أزفرها وأحياناً تثقل صدري لا رائحة تراب هنا بعد المطر، بل بالأصل لا تراب أحمر جميل كالذي هناك، لا طين يعلق بحذائي ويربكني في مشيتي، ولا أمّ تأمرني أن أخلع حذائي المتّسخ وأحمله بيدي كي لا أوسّخ الأرض التي شطفتها للتوّ بماء السماء.
كلّ هذا الصخب الدائر هنا وأضواؤه الفاقعة من كلّ الألوان لا تعني لي الكثير، فأنا منذ طفولتي مولع بمراقبة النجوم والقمر في الليالي التي كنت أقضيها على السطح هناك حيث أتسلّى بعد النجوم غير مبالٍ في الثآليل التي ستظهر في يديّ، في اليوم التالي عقاب على فعلتي، كم كنت سعيداً وأنا أعاند الوقت، أعاند الطبيعة، أشد اللحاف على وجهي لأحميه من حبّات المطر متأمّلاً أن يهدأ لأعاود غفوتي من جديد، ولكن غالباً ما كانت الطبيعة تغلبني وتزيد من هطلها لاحتضن أمتعتي كلّها، وبصعوبة أهبط بها الدرج وأعرف أنّه عندما تراني أمّي ستقول (شيلة العاجز قنطار)، آهٍ لو ترين عجزيَ هنا يا أمّي، حتّى الموسيقى هنا ليست هي التي ألفتها أذني هناك، لا عتابا هنا، لا نايل ولا موليّة، ولم يبقَ لي من خيار إلّا أن أعزف بعضاً من الارتجال ويرافقني على ايقاعاته الإفريقيّة المتنوّعة، هذا الذي استطعت بعد جهد جهيد أن أفهم أنّه يريد أن أذهب معه إلى بيته كانت الموسيقى لغتنا الوحيدة استمتعنا بها ولو إلى حين، بعدها تناول ما يشبه الطعام كنت أمضغه بصعوبة وأتذكّر ما كنتِ تقولينه وأنت تعدّين طعاماً خاصّاً لوالدي (لكليب ما بتاكلو)، ثمّ أسمعني من آلة التسجيل بعضاً من موسيقى عصر الباروك، كان ذكيّاً في ملاحظة مدى انسجامي مع الموسيقى، أسمعني موزارت بيتهوفن لاحظ أنّني غير منسجم تماماً مع ما أسمع لأنّني لم أكن معه هنا، بل كان جزئي الأكبر هناك.
وأخيراً صدحت أم كلثوم برائعتها الأكثر أسىً وحزناً (حطيت على القلب ايدي وأنا بودع وحيدي) وعندما ضممت أصابعي ورفعت الابهام إعجاباً منّي أن توجد أغنية لأمّ كلثوم مطربة شرقنا عند من لا يفهم لغتها، ظنّ أنّني استسغتها أكثر من كلّ ما أسمعني إيّاه من موسيقى.
استطعت أن أفهم ما عناه بكلماته والأكثر بالإشارة (عرب سمعو أغاني وابكو) أومأت لها جهة شرق المتوسط، وقلت له: «اذهب إلى هنالك وشاهد ما يجري وستؤمن أنّه لا يمكن العيش دون بكاء»، وبالتأكيد لم يفهم ما قلته له وما عنيت.
لا أحد يفهمني هنا فالمتعايشون في مكان واحد يتفاهمون حتّى بدون كلام يعرفون إيماءاتهم، لغة عيونهم، كنت أخمّن أنّني طارئ جديد على هذا المكان وقد أستطيع بعد مرور زمن ما، أن أعتاد، أن آلف إن لم يكن كلّ، فبعض ممكناته لكن الألم كان يكبر كلّما التقيت هنا بمن فرّ من البلد منذ عشرات السنين نتيجة معارضته سلطة الاستبداد، ومع أنّ مصالحه الماديّة هنا على ما يرام، لكنّها لم تعنِ له شيء، ولم يهدأ له بال، وجاب أكثر دول العالم.
يلتقي بالسوريّين يحدّثهم عن الوطن يشتمّ فيهم رائحته، يسألهم عن البلدات عن المدن والحارات وشوارعها عن الزوايا وتفاصيلها الدقيقة، عن أحوال البشر هناك.
ذات الأزمة تتكرّر بعد كلّ حديث معه، حلمه بالرجوع إلى مكانه الأوّل يومئ بيده لجهة الوطن يزفر يتأوّه، أتلمّس بين عباراته حنيناً موجعاً لأحلام يقظته، هنالك في الوطن، في بيته، أشتمّ رائحة الألم في كلّ كلمة وحرف ونقطة وفاصلة، ويتابع، أعرف أنّني لن أستطيع أن أعيش هناك، لكن كنت أتمنّى فقط أن أزور مكانيَ الأوّل ولو لعدّة أيّام، استنشق هواءه، أشرب ماءه، أعود إلى طفولتي وصبايَ.
يتنهّد ويتابع، أنت تعرف أنّه في هذه البلاد يُسمح أن تكتب في وصيّتك ما تريد، حتّى الوصايا في بلادنا لا يُسمح لنا أن نكتبها كما نشاء إلّا بحدود ضيّقة، وأنّ صديقي سيكتب في وصيّته أن احرقوا رفاتي وضعوا الرماد في زجاجة من البلاستيك وألقوها في المحيط فعسى أن يتلمّس البحر حنيني وتحمل أمواجه رفاتي إلى هناك، إلى شاطئ الوطن، وأنت.. صمت.. أطرق.. تنهّد.. حدّق بوجهي بنبرة يشوبها حزن معتّق… عندما انطلقت الثورة شعرت أنّني جبال من الفرح، كنت أتابع كلّ مجرياتها، كلّ حيثياتها وتفاصيلها الصغيرة، لقد جفانيَ النوم ولم أعد أغفو إلّا ساعات قليلة بعد أن يهدّني التعب، وبدأت تعود إليّ أحلاماً عافتني منذ سنين، ولا أخفيك أنّني حلمت عدّة مرّات بأنّني طفل يلهو في بيته في شوارع بلدته، حتّى أنّني رأيت في حلمي صورة والديّ الذين توفّوا منذ سنين.
بدّدت كلّ ما جمعته من ثروة في سنين غربتي، فقد كنت أحلم أن أعود إلى الوطن خالي الوفاض وأعرف أنّ بيتي قد أتت عليه براميل الحقد، لكنّ حجارته التي تبعثرت، أسقفه المنهارة تعني لي الكثير، لكنّني الآن وبعد أن وصلت الأمور إلى ما وصلت إليه لم يعد لي أيّ أمل بالعودة، وكتبت في وصيّتي: أن ادفنوني واقفاً ووجّهوا وجهي جهة الوطن.
أسعد شلاش