شكلت العشائر جزءا أصيلا من المجتمع السوري، وقبل محاولة رسم الصورة العشائرية في المشهد الثوري السوري، وكمدخل للوصول إلى هذه الغاية لا بدّ من الإجابة على سؤال:
ما الذي جعل أغلبية شيوخ العشائر، يقفون إلى جانب نظام الأسد، ويعلنون الحرب على الثورة السلمية منذ أيامها الأولى؟
فالمناطق ذات الطابع العشائري، ظلّت هادئة في السنة الأولى من الثورة، ولم تنخرط في الحراك الثوري، وإن خرجت بعض المظاهرات هنا وهناك فإنها سرعان ما تخبو.
وحاول نشطاء العشائر جهدهم اقناع شيوخ العشائر بالانضمام للثورة وأطلقوا جمعة أسموها (جمعة العشائر) في السنة الاولى من الثورة، لكن ردّ شيوخ العشائر جاء على شكل «تجمع ملتقى شيوخ العشائر في الرقة،والحسكة وحماه»، أعلنوا فيه مبايعة بشارالأسد والولاء المطلق له، وبقي نظام الأسد يعتبر تلك المناطق تخضع لسيطرته لوجود ممثليه من شيوخ العشائر المرتبطين به.
كان النظام قد اشتغل على الوتر العشائري منذ تولى حافظ أسد السلطة، وركز بشكل أساسي على شيوخ العشائر، والمعروف أن المشيخة تستوجب شروطا، كالأصالة التاريخية والكرم والشجاعة والأكثرهم أقرباء في العشيرة، والأقدرهم على حل مشاكل عشيرته الداخلية والخارجية، لكن الكثير من العائلات العريقة فقدت بريقها لأسباب قهرية منها السياسي والمادي والشخصي، فانتقل مركز التأثير عند بعض العشائر فجأة إلى أشخاص نتيجة علاقتهم مع سلطة نظام الأسد، الذي لعب على وتر التناقضات حتى في العائلة الواحدة، وربط مصيرهم به، ومنحهم أعطيات ومراكز نافذة في الحكومة والإدارة، فقد نال قسم منهم سيارات من نوع مرسيدس فارهة يتباهون بها أمام فقراء عشيرتهم، وحفل مجلس الشعب بشخصين من نفس العائلة.
وانتشرت الانتهازية في مؤسسة المشيخة، فكانت من أسباب تردي القيم النبيلة وانحطاطها إلى الدرك الذي وصلت إليه عند بعض الشيوخ وما زالت تفتك في حياتهم وتهدد وجودهم المستقبلي، وسارع غالبية هؤلاء الشيوخ إلى دمشق، استجابة لدعوة الأسد عبر أجهزته الأمنية، وأصغوا لتعليماته، ولما سألهم عن مطالبهم، أجابه الشيخ نوري النواف :
(الآن الوقت ليس للطلبات، إنما للفزعات)
والفزعة هنا مساندة الأسد في قمع الثورة السورية، فعمل بعضهم على تجميع أنصاره فيما عرف (بخيمة وطن)، فوجد معارضة من أبناء عشيرته واكتفى بتلك الخيمة وبعضهم ذهب إلى أبعد من ذلك، حيث جمع حوله عددا من حثالة عشيرته من أصحاب السوابق الجنائية، والعاطلين عن العمل، ومعظم المجرمين الخطرين المحكوم عليهم بجرائم القتل والاتجار بالمخدرات والخطف أخرجهم النظام من السجون بعفو خاص، وشكل منهم عصابة مسلحة فأصبح هؤلاء الشيوخ في المنظور العشائري، شيوخ الحثالة، مما عمق شرخ الانقسام العشائري، بين شيوخ الحثالة، وبين أبناء العشيرة الثائرين، ومع تطور الثورة السورية، هرب هؤلاء الشيوخ المصنفين شبيحة إلى مناطق سيطرة نظام الأسد، للعمل هناك بصفة مخبرين على أبناء عشيرتهم، وراحوا يهتفون في شوارع المدن بزعامة شيخ الحثالة، (شبيحة للأبد كرمى لعيونك يا أسد)، ومن تبقى منهم في مناطقهم فقد سلحهم نظام الأسد، ليقمعوا أبناء عشيرتهم وليمنعوهم من المشاركة في الثورة، والأساس التكويني للشيوخ الشبيحة، مرده للطغمة العسكرية الحاكمة، بمظلتها السياسية القائمة على قانون الطوارىء المشهور، حيث تحول هؤلاء الشيوخ إلى مافيات تهريب، بالاشتراك مع ضباط الأسد الأمنيين، فقامت الأجهزة الأمنية بتوظيف شيوخ الحثالة في الأجهزة الأمنية، وبات لكل ضابط أمن شيخا شبيحا، يخدمه وينفذ أوامره، ويكلفه بمهام قمع المتظاهرين أو خطف شخصيات وطنية أو سرقة السيارات وغيرها من المهام واشتهر منهم (زينو بري)، رئيس الشبيحة في باب النيرب، والحارات الشعبية في حلب، يعاونه بعض شيوخ العشائر، ويموله رجال أعمال حلبيين، حيث كانوا يقومون بالتشبيح العلني في المساجد وجامعة حلب، ونقابتي المحامين والأطباء، والأحياء الثائرة، مستخدمين السكاكين والسيوف، والأسلحة، ويتقاضون أجرا يوميا بحسب المهام الموكلة إليهم.
وارتكب (زينو بري) جرائم وحشية قبل الثورة على طاولات القمار في الملاهي الليلية، و أسرف في قمع الحراك الثوري في حلب، إلى أن قتله الثوار وهو يقوم بواجبه التشبيحي، ومن مشاهير شبيحة العشائر- أعضاء مجلس الشعب -.
ومنهم (عقل الحمادين) من شيوخ بقارة حلب، ارتكب بحق أبناء عشيرته مجزرة قرية المالكية المشؤومة بالتعاون مع عصابة الأسد، والتي راح ضحيتها العشرات حرقا.
وبلغ أحدهم (أحمد المبارك) موقعا نافذا في نظام الأسد الأمني، وشارك في قمع المظاهرات السلمية في منطقة معرة النعمان، وتحولت قريته (أبو دالي) إلى قلعة عسكرية، ولا زال يدير شركة احتكارية كبرى للمحروقات، ويتقاضى أموالا طائلة من المواطنين لقاء مساعدتهم في العثور على أبنائهم المعتقلين، ويشاركه في الفساد ممن يحسبون على الثورة.
وبعضهم تماهى مع طائفية نظام الأسد فاعتنقوا المذهب الشيعي.كما قام نظام الأسد برشوتهم بمبالغ مالية تتراوح قيمتها بين (150- 250) ألف دولار للشيخ الواحد، ويقدر المبلغ بحسب حجم عشيرة الشيخ.
وفي الجزيرة السورية، استمال الأسد شيوخ العشائر، وبعض الشخصيات النافذة من الأكراد، واستخدم مكونات المجتمع في الجزيرة ضد بعضهم، العرب ضد الأكراد، والأكراد ضد الأشوريين والعرب.
وبلغ توظيف الأسد لشيوخ عشائر الجزيرة ذروته في قمعهم الحراك الكردي عام 2004م ، ونجح نظام الأسد مرة أخرى في توظيف أغلب شيوخ العشائر، وبعض قادة الأحزاب الكردية للوقوف ضد الحراك الثوري، ونتج عن ذلك، تشكيل الشيخ (حميدي الجربا) ميليشيا (جيش الكرامة) لذبح العرب الثائرين، ويسانده حزب ( pyd)، الذي قام بتصفية عرقية للعرب في تلك المنطقة.
هذه العلاقة بين نظام الأسد، وشيوخ العشائر، والقائمة على الفساد والرشا، استطاعت تحييد عدد كبير من أبناء العشائر، بعد استعانة نظام الأسد بسلطة شيخ العشيرة، في قمع الثورة السورية، وظهر في المشهد العشائري زعامات لم تكن موجودة، استمدت شرعيتها من سلطة الأسد، وارتبطت بأجهزة السلطة الأمنية، ورهنت مصيرها بمصير الأسد حرصا منهم على منافع شخصية ولانعدام الثقافة والرؤية لدى هؤلاء المشايخ في خير الثورة على جميع السوريين فضلا عن ابناء عشائرهم.
تركي المصطفى