سلمية.. الدمعة التي ذرفها الرومان على أول أسير فك قيوده بأسنانه، ومات حنينا إليها، بهذه الكلمات وصفها أديبها محمد الماغوط قبل رحيله، ولم يكن يدري حينها أنها ستكون أسيرة دولتين لم تشهد البشرية مثل إجرامهما «دولة الأسد ودولة البغدادي».
لم تبدأ مدينة السلمية التي تقع شرق مدينة حماه، ثورتها بعد عام 2011 فالسلمية تملك تاريخا طويلا من معارضة النظام الحاكم، ومعظم سكانها مسيسون حزبيا ولديهم أفكار وعقائد سياسية تناقض تلك التي يقوم عليها نظام الأسد فكانت مركز تاريخيا للمعارضة السورية.
ومع اندلاع الثورة السورية لم تتأخر مدينة السلمية في اللحاق بركب الثورة بل شهدت ساحاتها مظاهرات يومية واسبوعية، تقدمها المثقفين والنخب السياسية في المدينة حيث خرجت أول مظاهرة في الرابع والعشرين من شهر مارس آذار 2011، ونشأ فيها الحراك السلمي الثوري، وأسست التنسيقيات الثورية التي لا تزال قائمة فيها حتى اللحظة.
وكغيرها من المدن السورية لم تبخل السلمية في تقديم عشرات الشهداء ومئات المعتقلين، وكونها تعتبر نموذجا فريدا للعيش المشترك بين طوائف الشعب السوري فسكانها متعددي المذاهب والملل وشكلوا بانتماءاتهم الدينية والفكرية المختلفة لوحة فسيفسائية جميلة أضفت على المدينة طابعا مميزا سعى النظام الى كسبها إلى صفه فلم يكن لديه سبيل الى ذلك إلا بقمعها وتعريض سكانها الى العقاب الجماعي بقطع الخدمات عنها من ماء و كهرباء وشح المحروقات وضعف الاتصالات و فصل عدد كبير من موظفيها وقام بحصارها عسكريا بخط دفاعي عسكري حصين يصل بين تل جديد والسعن بامتداد 40 كلم دعمته وحدات الهندسة في الجيش بالسواتر الترابية والألغام والخنادق.
حلف الأسد والبغدادي:
لم تنجح سياسة القبضة الحديدة في إخراج المدينة عن خارطة الحراك الثوري وتجلى ذلك برفض شبان المدينة الالتحاق بالخدمة الإلزامية في صفوف القوات النظامية ففي السلمية قرابة 18 ألف مطلوب للخدمة الإلزامية والاحتياطية وتقوم الأفرع الأمنية في المدينة بشكل شبه يومي بحملات مداهمة بحثا عن مطلوبين للخدمة العسكرية.
وبما أن كل تلك الإجراءات القمعية لم تنجح في إعادة المدينة إلى الطاعة لجأ نظام البعث إلى سياسة الترهيب من خطر داعش فقام بشكل تدريجي بسحب خطوط الدفاع عن المدينة وفي مقدمتها كتيبة المدفعية في قرية بري الشرقي التي كانت تعتبر خط الدفاع الأول عن المدينة بوجه تمدد تنظيم داعش عمد النظام إلى إخلائها بشكل شبه كامل في شهر حزيران من العام 13 20، واستبدل القوة الكبيرة الموجودة فيها بقوات محدودة القدرات لا تستطيع الصمود طويلا في حال مهاجمة الكتيبة.
ومع عجز النظام عن تطويع المدينة ، وتراجع قدراته العسكرية ، وانشغاله بالمعارك الدائرة في باقي أرياف المحافظة ، وتنامي قوة تنظيم داعش وعجزه عن مجابهته في كثير من المعارك، وخسائره البشرية الكبيرة في المعارك ضد التنظيم ، واستمرار شبان المدينة في رفض الانخراط في صفوف قواته، كل هذه العوامل دفعت النظام إلى التخلي عن المدينة بشكل تدريجي، حيث ومن وجهة نظر النظام، لم تعد السلمية ذات أهمية إستراتيجية، وعلى أبنائها الدفاع عنها.
تنظيم الدولة الإسلامية أو داعش، لا يبعد كثيرا عن المدينة، فأقرب تواجد له لا يزيد عن 15 كم، هذه المسافة القريبة مكنت داعش من استهداف المدينة بالقذائف الصاروخية، وخلفت قتلى وجرحى من المدنيين، معظم هذه القذائف الصاروخية استهدفت التجمعات السكنية في المدينة والأسواق لم تكن فقط النقاط العسكرية لقوات هي الهدف لداعش، وإنما المدينة عموما، بأحيائها، وسكانها.
قرية المبعوجة التابعة لمدينة السلمية والتي انتشر أسمها بعد قيام تنظيم داعش بمجزرة مروعة فيها في 30 آذار الماضي كان النظام شريكا فيها، وراح ضحيتها ما يزيد عن 55 مدنيا بينهم نساء وأطفال ذبحا و حرقا وإعداما بالرصاص وخطف حوالي 75 آخرين مازال مصيرهم مجهول حتى اللحظة، واستكمل النظام جريمة داعش بقصفه العشوائي للقرية فخلف حوالي عشرة قتلى تحت الأنقاض.
بتاريخ 20/شباط/ 2015، استهدف تنظيم داعش المدينة ب 5 صواريخ غراد، سقطت معظمها بين منازل المدنيين، ونتج عنها قتلى ومصابين وبتاريخ 6/نيسان /2015، استهدف التنظيم أيضا المدينة بأربع صواريخ غراد، سقطت معظمها بين منازل المدنيين وتسببت بمقتل 6 مدنيين وجرح 16 آخرين.
لم يقف تنظيم داعش عند هذا الحد، بل جعل من الطرقات المؤدية إلى المدينة مصائد موت لسكان المدينة ، فسيطر التنظيم على مساحات واسعة من الطريق الريفي الشرقي للمدينة، والممتد من قرية بري الشرقي وحتى العقيربات، وكذلك على عدة طرقات تصل بين ريف حمص الشمالي وريف حماه الشرقي، وقيام التنظيم بنصب كمائن على هذه الطرقات تهدف إلى خطف أبناء المدينة و قتلهم، حيث تسجل عمليات الخطف لأبناء المدينة بشكل اسبوعي تقريبا.
وحول هذا الموضوع أفاد (ث ، س ) لجريدة زيتون وهو أحد أبناء مدينة السلمية والمقيمين فيها “إن الطرقات الريفية للمدينة محرمة علينا، تنتشر على هذه الطرقات عمليات الخطف والقتل بشكل متكرر، حياتنا اليومية تحتم علينا المرور من هذه الطرقات، والبعض منا يمتلك أراضي زراعية في تلك المناطق و عليه رعايتها، نحن جميعا لا نستطيع الخروج كثيرا من المدينة، فداعش يتربص بنا”
ولكي تصبغ المعاناة بالطائفية أيضا، بدأت ظاهرة خطف أبنائها المتواجدين في الشمال السوري المحرر ، حيث تسيطر على الشمال قوى متعددة الانتماءات، لا يروق لبعضها وجود مواطنين من الطائفة الإسماعيلية في مناطق سيطرتهم، ويعد الشمال هو الطريق الوحيد المتاح لشبان السلمية الملاحقين من قبل النظام وإغلاق هذا الطريق ، سيجعلهم أمام خيارات الاعتقال أو القتل على الجبهات، وفي هذا السياق ، سجلت عدة حالات خطف لمواطنين من مدينة السلمية في الشمال السوري ، وعثر على أربع جثث لمواطنين من مدينة السلمية في الأراضي الزراعية بالقرب من سرمدا ، كانت الجماعات المتشددة قد قامت بتصفيتهم ليلا بعد علمها بأنهم من الطائفة الإسماعيلية.
س.ش وهو أحد شبان مدينة سلمية قال لزيتون «أنا ملاحق من الأجهزة الأمنية في المدينة منذ شباط 2015 ، يريدون مني الالتحاق بالقطعات العسكرية، وأنا أرفض ذلك، أثرت الاختباء في منزل صديق لي، أنتظر الأن أن يكون الطريق سالك، أريد الذهاب إلى الشمال ومنه إلى تركيا، حصلت مؤخرا حوادث قتل لعدد من أبناء مدينة السلمية في الشمال، هذا الأمر مقلق جدا بالنسبة لنا، فخياراتنا باتت محدودة جدا «
بات من الواضح ومن مجريات الأحداث على الأرض، وبعد استهداف تنظيم داعش لمدينة سلمية وريفها، أن النظام السوري يحاول استثمار هذه الأحداث لمصلحته، وذلك عبر محاولة إعادة تكرار تجربة سنجار والإيزيديين بنسخة سورية، في منطقة سلمية، التي تحتوي خليطاً مذهبياً متنوعاً ومسالماً يمثل الشعب السوري بغالبيته.
داليا معلوف