«إذا ما استعملنا ضوء الذاكرة وجدنا أنّ محمّد الماغوط في وجه من الوجوه جزء من المستقبل، لذا كان لا بدّ من حمايته من غبار الحاضر»
سنيّة صالح
صنّف البعض «العصفور الأحدب» كقصيدة طويلة – ربّما – لعدم قدرتهم على رؤية الخطّ الدراميّ، أو لصعوبة إكساء شخصيّات العمل إهاباً معتاداً، ولكنّ المؤكّد أنّ الخوف من الرقيب قد لعب دوراً في إحباط العديد من محاولات تجسيدها.
فالمكان يبدو من عالم أبعد ما يكون عن الحياة، حين يستهلّ الشاعر محمّد الماغوط نصّه بالصورة التالية:
(قفص بشريّ مجهول في صحراء مجهولة. سماء شاحبة وغيوم رماديّة. ساقية موشكة على الجفاف. أغطية خلقة، صحون، ملاعق، ضمادات ملطّخة بالدم. دورة مياه، مغسلة)
ومن الوهلة الأولى يجرّد الماغوط شخصيّاته من أسمائها فهم سجناء يتّكئون على وسائدهم القذرة بإعياء، أسماؤهم: كهل، قزم، صانع أحذية، عازب مصاب بالشذوذ الجنسيّ، طالب، وعدد آخر من السجناء المجهولين، معصّبي الرؤوس والأطراف. بعضهم يقعي، وبعضهم يمشي، وبعضهم الآخر يغلي ضماداته وثيابه وسط بحيرة من الوحل. وهنالك حارس، وامرأة في الحلم، وطائر موجود دائماً، ولو عبر نافذة السجن.
نافذة السجن، التي نرى عبرها توق السجناء إلى الحياة وإلى الموت بآن، فمنها يرون الطائر والرصاصة والمرأة، منها يحلمون بالحرّيّة ولا يصلون إليها، منها يأتي الأمل كما اليأس؛ يأتي الإفراج من الباب، إذ يدخل السجّان – الحارس الذي يسأل كالعادة عمّن يشتم الدولة؟ ولكنّه في هذه المرّة يطلب منهم التهيّؤ للخروج.
الخروج من السجن يُنهي الجزء الأوّل من النصّ، ولكنّ المكان الجديد أيضاً يشبه السجن فهو: (فسحة كبيرة موحشة، نوافذ سوداء، شجرة جرداء هادئة هدوء الموتى) وتبقى الشخصيّات كذلك بلا أسماء: الجدّ والجدّة، الطفل والطفلة، المشوّه، الحبلى، فلاح مجهول، ومندوب السلطة، وهنالك أيضاً طائر عجوز؛ كلّها في حالة انتظار.
الانتظار – كما في الجزء الأوّل – هو الموقف الدراميّ المسيطر، والسلطة لا تقدّم إلّا خطاب القمع الطويل، والمزيد من الذلّ للمنتظرين، حتّى يصرخ الطائر، ولا مهرب، مهما حدث في المكان – السجن، وإنْ رأينا الطائر متدخّلاً، لكنّه يساهم كمرآة فنّيّة تعكس تطوّر الشخصيّات كما في انتحار الجدّ أو قتله «كرجل أُطلق عليه الرصاص من الخلف».
وتنقلب شخصيّات مع انقلاب المكان في الجزء الثالث، فالسجين الكهل يصير أميراً وحاكماً مطلقاً في القصر الرخاميّ المحاط بالعسس، والشاذّ يصبح قدّيساً ناسكاً يُشار إليه بالبنان.
أمّا العامّة فينتظرون المطر! ومن يتجرّأ منهم أو يفكّر أن يتجرّأ، يُعتقل ويعذّب هو وعائلته، كما حدث مع الحذّاء.
من داخل القصر يوجد من لا يحتمل ضميره ما يحصل، فينتحر، لكنّ الآليّة تستمرّ وتسير وتؤدّي مهامّها فتستقبل وتودّع وتجلد من يحاول أن يتكلّم، وتطلق عليه الرصاص.
الرصاص له في الجزء الرابع فرقة خاصّة، تدخل إلى قاعة المحكمة، فالمكان هنا أخيراً (قاعة منخفضة السقف جدّاً ومظلمة جدّاً) أي أنّها زنزانة أخرى، يتمّ فيها الحكم على طفل وطفلة أخوين بالإعدام رمياً بالرصاص، ولكن، نظراً لصغر سنّهما فيُعدمان ببندقيّتين صغيرتين.
الشخصيّات – هنا أيضاً – بلا أسماء: قاضي، حاجب، الريح، عصفور. وينهي الماغوط نصّه بهذا الحوار:
عصفور: إذا نبتتْ زهور ما…
العصفور الآخر: قد لا تنبتُ زهور ما.
الطائر دائماً موجود في النصّ، وهو أحدب لأنّ الماغوط نفسه كتب نصّه بين السجن الحقيقيّ في زنزانة، والاختباء في غرفة تحت درج، خشية الاعتقال، تزوره سنيّة صالح (زوجته) لتأتي له بالضروريّ، عاش تلك الأيّام منحني الظهر في وطنه، حتّى عاد كعصفور أحدب.
بشار فستق