حينما كانت الثورة سلمية، وحينما كان صبايا الثورة وشبابها يهتفون للحرية، ويبتدعون أشكالا جديدة للتعبير، ويتسابقون كل يوم لابتكار أساليب تقضُّ مضاجع الطغاة، يلونون برك الساحات العامة بالأحمر، يكتبون على الحيطان، يقدّمون المشاهد التمثيلية، يطيّرون البالونات، كان صاحبنا يقول: لعب أطفال، شباب فائر، ما هكذا تكون الثورات! الثورة يلزمها طليعة تقود الجماهير، لا جماهير شعبوية تجرُّ الطليعة المثقفة وراءها في الشوارع، ويعود بعدها إلى طاولته ليدبّج مقالات تعلّم الجماهير كيف تكون الثورة على أصولها. هو لم يكتشف بعد درباً صالحاً للثورات، لكنه حينما صارت الحرب سجالاً، والموت لازمة يومية، بات يطالعنا كل يوم بنغمة لا يحيد عنها: ألم نقل لكم؟ ما هكذا تكون الثورات!
آخر يتنحنح ويقول: لن تفيدكم هذه الحركات الصبيانية، هذا النظام لن يسقط إلى بحرب تحرير شعبية، علينا أن نثوّر المجتمع من داخله لإعلان الحرب، ثم يعود إلى غرفته ليقرأ بتمعّن تجارب الشعوب ليستخلص منها ما يناسبنا!وقبل أن يستخلص لهم تجربة تناسب واقعهم، يحمل الشعب السلاح دون إذنٍ منه، ويقرر إسقاط الطاغية بحرب، ينتفض صاحبنا كالمذعور، ويصرخ على الملأ: هذه ليست حرب تحرير شعبية، هذه حرب شعبوية، ألم أقل لكم سابقاً!
ثالث، لا يقبل على الإطلاق بثورة تنطلق من المساجد، وحتى لما هبّت الجامعات، كان يتبرّم شاكّاً أن أصحاب الذقون هم من يقودون تنسيقيات الطلاب! وأن ما يجري ليس أكثر من تشليح النظام عباءة العلمانية وإلباس الشعب بردة الإسلام. وأنّ هتافات الجماهير لا تتناسب وعلم الجمال الماركسي، وعلينا أن نثور من المسارح ودور السينما والمكتبات العامة، هو نسيَ أو تناسى أن لا مسرح ولا سينما ولا مكتبات لدينا، ومع ذلك ها هو يقول متشفّياً: لقد حذرتكم، ألم أقل لكم سابقاً؟!
رابع وخامس وسادس وعاشر، وربما وصل الرقم حتى الألف والألفين، وحتى العشرة آلاف، هم كلهم ثائرون، ورافضون لهذا النظام، ولو مشينا وراءهم ووراء أفكارهم لكانت نجحت الثورة، وما وصلنا إلى ما وصلنا إليه، هم لم يبادروا في وقتها، لم يشاركوا لا بتنظيم ولا بتخطيط ولا حتى بالصراخ بصوت مبحوح، لكنهم اليوم يتنطّحون ويصرخون بعالي حنجرتهم: ألم نقل لكم؟ ألم ننصحكم؟.
ربما، حين كان لصوتهم أن يخلق أثراً ما، آثروا الصمت والانكفاء، وحينما كان لتحركهم أن يغيّر شيئاً من قواعد اللعبة، اختاروا التفرّج من بعيد، ولكنهم حين لم يعد لصوتهم أو لحراكهم قيمة، ها هم يقولون لنا: ألم نقل لكم!
حسين برو