قُتل ليتحوّل إلى رقم، لا تحتاج الأرقام الجديدة هنا سوى دقائق قليلة لتغدو قديمة.
قبل أن يقتله القاتل، قتله الخوف والجبن من الآخرين. ورقة واحدة كانت تكفي لبعث حياة كاملة. أتخيّلني هو، فأغرق في وحل الخذلان.
هو المجهول جدّا، المهمّش جدّا، المنسي جدّا، المصلوب بلا أبناء يفديهم, صُلب عبثا.. صرخ طويلا، لماذا تركتموني وحيدا؟!! وكلّنا كنا ذاك الإله الذي صمّت آذانه ضجيج العويل.
الموت مجانا.. هو العنوان الأكثر لمعانا الآن.
هنا، أو في أيّ مكان آخر شبيه بهنا، يمكن أن يتحوّل القتيل إلى أيّ شيء آخر بلمح البصر. قد يغدو شهيدا، سلعة، رقما، أغنية، قصيدة، شيئا لم يعد ذو نفع، طعاما، غنيمة، فطيسة، ومن الممكن جدّا أن يتحوّل إلى أيّ شيء يمكن أن يكون ذو نفع عام أو خاص.. وهذا الأمر يرتبط ارتباطا وثيقا بأمور كثيرة، أمور عديدة جدّا، لكنّها أبدا لا ترتبط بالقتيل في حدّ ذاته.
شخص ما مثل صديقي المجهول جدّا، لن يتحوّل إلاّ إلى لا شيء. في أحسن أحواله لن يكون إلاّ رقما بين أرقام أصدقائه المجهولين جدّا الأخر.. وهذا من دواعي سروره وسروري.
لا أدري لماذا يرفض الأحياء المتبقّين هنا تسمية القتيل باسم القتيل دون منحه ألقاب مضحكة كالشهيد أو البطل أو غيرها. لا أدري لماذا يجتهدون في اختراع الألقاب ويتفنّنون في رشّ الزركشة حول اسمه. انكار الموت؟ دفع مشاعر الذنب؟ قتل الخوف؟ تجميل القبح؟ مسح الدم؟ إعادة إحياء الموتى؟؟!!
الموت المجاني.. هذه هي الحقيقة.
الخوف من تلك الحقيقة هي التي تدفع الجميع, الجميع بلا استثناء إلى اختراع الألقاب. الألقاب الجميلة لنا، الألقاب السيئة لهم، وهكذا. نشعر وكأنّنا بهذا اللقب الذي نلصقه دوما باسم قتيلنا بأنّه لم يمت عبثا. وأنّ موته بغاية، كما كانت حياته بغاية أيضا!! ولأنّنا نخاف من هذا العبث، ومن هذا المستوى المتدني جدّا للموت نطلق الألقاب، نتفنن بها، نبدع في اختراعها. ونجمّلها بقدر ما يكون في وسعنا ذلك. ونبالغ في هذا حتّى لتتحوّل تلك الألقاب إلى مساحيق تجميل رخيصة غاية في الابتذال.ونحن لا نخاف من تلك الحقيقة لأنّنا نخشى على موتانا. بل لأنّنا نخشى على أنفسنا. فنحن لا نحمي موتانا، بل نحمي أنفسنا.
فجأة، يتحوّل القتيل إلى مرثيّة مضحكة، تتحدّث عن مزايا لم تكن موجودة يوما في هذا القتيل، تمحي كلّ عيوبه بلا استثناء، تجرّده من إنسانيّته، تعيد بعثه كملاك بارد سمج مضحك. يتحوّل إلى شخص آخر، نكاد لا نعرفه، ولا يعرفنا. هل خطر في بال شعراء الموت يوما أن يحموا قتلاهم من القتل مرّة أخرى؟؟ بدلا من حماية أنفسهم!! موت أحدهم قتلا يعني أنّك مشروع قتيل جديد. يعني أنّك مشروع شاعر قتيل جديد، والمرثيات لا تتوقّف عن استفراغ كلمات باردة جاهزة مضحكة رنانة لا تمتّ إلى القتيل بصلة.
صديقي قٌتل أيضا. لكنّي لن أحوّله إلى أيقونة باردة. لن أمحو عنه بغباء عيوبه، لن أبعثه ملاكا أو إلها أو أيّ شيء آخر. لن أغيّر كينونته، لن أعبث بصيرورته. صديقي كان مجهولا جدّا، وحين قتل، قتل مجهولا جدّا. قتل بعشوائيّة شديدة، بعبث كامل، وقتل بيد أصدقائه قبل يد قاتله. لم تشفع له كلّ عيوبه، كما لم تشفع له كلّ جماليّاته. لم تشفع له إنسانيّته. كان قتيلا ككلّ القتلى. وربّما كان من الممكن جدّا أن يتحوّل إلى أشياء غريبة جدّا، غريبة عنه، غريبة عن حياته، غريبة عن موته.
ربّما كان من الممكن أن يقتلوه مرّة ثانية ثمّ ثالثة ثمّ رابعة!
منهم من قد يعتبره قتيلا من صفّه فيحوّلوه إلى شهيد، وهناك من قد يعتبره قتيلا من الصفّ المقابل فيحوّله إلى «فطيسة». الحياديّون جدّا والمنشغلون «بتوصيف» الحالة العامّة هنا قد يحوّلوه إلى رقم. أقرباؤه قد يحوّلوه إلى بطل. أصدقاؤه أيضا ربّما يحوّلوه إلى مرثيّة. التجّار؛ تجّار الحرب،من الممكن أن يحوّلوه إلى سلعة. الإعلاميّون قد يجدون لأنفسهم الحق في تحويله إلى خبر….
صديقي الذي هو الآن ليس إلاّ قتيلا مسكينا مسلوبا حياته، كان من الممكن أن يتحوّل إلى ألف شيء لا يحصر، إلى ألف شيء يعلّق على حائط ما للفرجة, يصفّق له المصفّقون، يبصق عليه الشامتون، يضحك له المستفيدون، يتصوّر قربه السائحون. صديقي الذي هو ليس إلا قتيلا مسكينا مسلوبا حياته، كان من المحتمل أن يكون أيّ شيء على الإطلاق وفق اليد التي ستعثر على جثته. وفق الأيد التي ستتقاسم جثّته. ولكن, لأنّه مجهول جدّا، ولأنّه دفن سرّا «وربّما لم يدفن»، ولأنّه أخفي خبر موته ككلّ الموتى هناك، ولأنّه كان رجلا مهمّشا جدّا أثناء حياته، بقي إنسان قتيل وفقط.
صديقي المجهول جدّا، سعيد جدا الآن، لأنّه لم يتمّ قتله آلاف المرّات بعد موته.
(هذه الرسالة يمكن أن تكون عن أيّ قتيل آخر، لمرّة واحدة فقط، غير صديقي هذا. سلام لروحه أبدا، سلام لأرواحهم جميعا)
ريم الحاج