تكاد لا تخلو دائرة حكوميّة أو منظّمة إنسانيّة لها علاقة بالشأن السوري من الفساد إلّا ما ندر، ولا حاجة هنا لذكر أمثلة على حجم الفساد الذي رافق تلك المؤسسات منذ نشأتها.
في بداية الثورة السورية لم يكن يخطر ببال أحد من أبنائها أن يفكّر مجرّد تفكير بأنّه ممكن أن يُتاجر في ثورته التي قام بها من أجل حريّته وكرامته التي سُلبت منذ عقود، ولم يكن يخطر ببال أحد من أبنائها بأن تكون تجارة رابحة كما أرادوا لها أن تكون أو كما رآها البعض وكما سيق إليها البعض الآخر، تدفّقت الأموال وبدأ البيع شيئاً فشيئاً، بدأ الشراء وكما هُيّئ للبعض بدأ الربح يتدفّق على نفوسهم الضعيفة وبيْعتِ الثورة في أروقة المؤسسات التي أنشأت لحمايتها.
بعد المداهمات التي كان يقوم بها عناصر الأمن عندما كانت الثورة سلميّة اندفع بعض الشباب لحماية بلداتهم وحاولوا في البدء أن يسطوا على بعض مؤسّسات الدولة لشراء الأسلحة والذخيرة، ولكنّ الموضوع أخذ يتطوّر أكثر وينحو مناحٍ مختلفة فبدأ البعض بالاعتداء حتّى على الممتلكات الخاصّة وبدأت عمليّات الخطف مقابل المقايضة بمبالغ ماديّة وكانت الحجّة دائماً من أجل شراء الأسلحة والذخيرة، وعندما كثُرت المبالغ الماديّة بأيدي أصحاب النفوس الضعيفة أصبح الأساس هو المال ونسيَ البعض هدف الثورة وانساق نحو مصالحه الضيّقة والأنانيّة.
وعندما أصبح التسليح واقعاً مفروضاً وتمّ محاولة تشكيل أطر سياسيّة تكون ممثلة للثورة أصبح الدعم خارجيّاً، فالكثير من الكتائب المسلّحة في الداخل أصبح لها أجندات بالدول المموّلة بحيث صارت هذه الدول في كثير من الأحيان تفرض أجندتها على الكتائب التابعة لها ماديّاً حتّى وصل الحدّ إلى فتح بعض المعارك وتوقيف أخرى بناءً على أوامر من هذه الدولة أو تلك، وغرق بعض قوّاد الكتائب بالأموال إن كانت من الخارج أو من الداخل حتّى أنّ البعض منهم كان يقبض من النظام لقاء تقديم خدمات معيّنة، وصار الهمّ الأوّل لدى البعض تكديس الثروة، لم يختلف الحال كثيراً بالنسبة للسياسيّين فلكلّ تكتّل جهته المموّلة والداعمة وغالباً ما تفرض قراراتها من حيث الترشّح والانتخابات على جميع هيئات الثورة الممثّلة سياسيّاً للثورة، حتّى المجالات الإنسانيّة لم تسلم من النهب والسرقة وغالباً ما كانت تُباع سيّارات المساعدات من على الحدود التركيّة، وحتّى في الداخل أو في الخارج كان وما زال التلاعب مستمرّاً فيما يُعرف ب «سلّة الإغاثة»، فأحياناً يتمّ سرقة الموادّ الغالية الثمن وبيعها في السوق. أمّا التجارة في الطفولة فحدّث ولا حرج، حيث تمّ استغلالها والمتاجرة بها فالكثير من التشكيلات أو الجمعيّات تظهر فجأة أثناء حملات الإغاثة تحت عناوين معيّنة وتختفي بانتهاء الحملة فنراهم يتباكون ويصورون ويكتبون (ويقيمون الدنيا ويقعدونها) على صفحات «الفيس بوك» إلى أن يحقّقوا مآربهم في النهب، ومن ثمّ الاختفاء وقد امتلأت جيوبهم وهذا جلّ ما يعملون لأجله، وهكذا نجد أنفسنا نكرّر أحد أهمّ أمراض الاستبداد التي ثرنا عليها وهي الفساد الذي كان ينخر في كلّ مفاصل المؤسّسات الرسميّة في دولة الطاغية، بل نستطيع القول: إنّ هذا الفساد انتقل إلى كلّ مفاصل الثورة وإن كان بحيثيات وأشكال مختلفة وهذا ما أساء لثورتنا حتّى أمام المنظّمات الأهليّة التي حاولت أن تقدّم العون للسوريّين، فكثير منها خذلهم من اعتمدت عليهم في تنفيذ بعض المشاريع إن كان في الداخل أو في الخارج يعني (دود الخلّ منو وفيه).
وفي المحصّلة فإن كان عن قصد أو غير ذلك، أخشى أنْ يصدق القول: «إذا أردت أن تفشل ثورة فأغرقها بالمال» ولكنّ سورية الوطن لا تنسى من خذلها بأعظم محنة عبر تاريخها وتحفظ أسماء كلّ أصحاب الضمائر الميّتة الذين تخلّوا عنها وتاجروا بشعبها فربحوا التجارة لكنّهم نسوا أنّهم خسروا الوطن.
فلك الخالد