لن نعود بالتاريخ للوراء كثيراً حتى نتفحص السلوك الأمريكي في المنطقة العربية. حيث لا يمكن لمقال واحد أن يغطي السلوك الأمريكي، والذي يزيد عن قرنٍ من الزمان. لذا سنختصر الموضوع ببعض الإشارات الضرورية ذات الدلالة.
يذكر الجميع كيف ازدادت عدوانية الولايات المتحدة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول 2011 في نيويورك، وكيف راحت إدارة بوش حينها، توزع الوعيد والتهديد في كل الاتجاهات، وكأنها قد فقدت صوابها، بحجة محاربة الإرهاب. لكن السلوك اللاحق بيّن أن القرار الأمريكي كان قد اتخذ في وقت سابق على ما يبدو، في أن: الذريعة العلنية جاءت في أفغانستان، بينما العين فعلياً كانت على العراق. لذا- وكما رأينا حينها- جاءت الضربة الأولى في أفغانستان، بينما الضربة الأساسية كانت قد تقررت في العراق. باعتبار العراق كان قد بدأ يشكل خطرا محتملاً بسلوك نظامه(السابق صدام حسين) المتضخم والجريء حد المغامرة،على المصالح الأمريكية وعلى حلفاءها في المنطقة. وقد جاء غزو الكويت واحتلاله ليدفع في هذا الاتجاه من التوجس العربي والغربي على حد سواء، من نظام صدام حسين.
(نشير هنا إلى أنه بعد أن تم الاتفاق على إيقاف «الحرب الباردة» بين القطبين، الأمريكي والسوفييتي، والتغيرات الدراماتيكية اللاحقة في عموم الكتلة الشرقية، والتي أنهت نظام القطبين، ليستفرد القطب الأمريكي أساسا في تقرير مصير السياسة العالمية بشكل كبير، بل ووحيد لبعض الوقت، الأمر الذي دفع الاستراتيجي الأمريكي، وصانع القرار الأمريكي للبحث عن عدو خارجي جديد، بديلا عن البعبع الشيوعي، يستنفر من خلاله الداخل الأمريكي، سواء مراكز القوى، أو الرأي العام الأمريكي بالعموم. طبعا دون إغفال استنفار كل الحلفاء الآخرين، سواء كانوا من الحلفاء الغربيين، أومن بقية دول العالم).
لقد كانت أفغانستان أول الأفعال العسكرية، خارج الحدود الأمريكية، كرد فعل مباشر على الأحداث الإرهابية في الحادي عشر من أيلول عام 2011.
تم فيها الإجهاز على بقايا الدولة الأفغانية التي كان «الطالبان» قد سبقوهم على تهديمها، حيث الدولة للآن لم تستعد عافيتها بعد، رغم مرور قرابة العقد ونصف العقد على الوجود الأمريكي في أفغانستان. فلا هي قضت على الإرهاب القاعدي، ولا هي قضت على حركة طالبان، ولا هي أرست بنية مدنية ديمقراطية لصالح الأفغانيين. الحصيلة «دولة فاشلة»..
بالانتقال للحالة العراقية، سنجد كيف عملت الإدارة الأمريكية بعد غزوها للعراق على تدمير الدولة العراقية(هل كان الأمر مجرد ارتجال وسوء تقدير) بعد أن كان قد مهد لهم الطريق من أجل تنفيذ تلك المهمة الخطيرة على الشعب العراقي، نظام استبدادي أرعن، أبعد ما يكون عن رؤية بعيدة المدى، إستراتيجية للصالح العراقي الوطني. النتيجة الماثلة، «دولة فاشلة» بكل المقاييس.
كيف لا ونحن لدينا مشكل خطير في قضية الانتماء الوطني للأنظمة العربية القابعة في الحكم منذ عقود،عبر ممارسات خاطئة، قل كارثية، في حق الوطن والمواطن على حد سواء.
(خلال الحرب العراقية الإيرانية والتي استمرت ثماني سنوات، وقد استهلكت فيها مقدرات كلا البلدين- بل ومقدرات دول أخرى في المنطقة- كان الجميع، أعني جميع المعنيين بالحرب بشكل مباشر، من دول الخليج، إلى الغرب بقيادة الولايات المتحدة يعتقد- واهما- بأنه مستفيد من تلك الحرب الكارثية في نتائجها، والعبثية في أهدافها).
تلك الحرب التي جعلت الدول العربية تزداد تباعدا وتخندقا أكثر مما هي متباعدة ومتفرقة.
قد يكون من الضروري الإشارة إلى الحرب الأهلية اللبنانية، التي استمرت خمسة عشر عاما، أنهكت فيها كل الأطراف السياسية اللبنانية المتصارعة، وأضعفت فيها الدولة اللبنانية إلى الدرجة التي لم تبق فيها للدولة أي فاعلية، إن لم نقل أنها فقدت مقومات الدولة فعليا.
وبالنظر إلى الأحداث السابقة، والمتغيرات الطائفية والسياسية التي وقعت، ومن المشهد الحالي لتوزع مراكز القوى اللبنانية – والامتدادات الخارجية هنا في غاية الخطورة – يظهر للعيان،أنه لا يمكن للدولة اللبنانية أن تستعيد فيها عافيتها في المدى المنظور.
النتيجة، «دولة فاشلة» نظريا وعمليا.
مع الغزو الأمريكي للعراق تأثرت المنطقة العربية برمتها، شعرت جميع الأنظمة العربية بالقلق من نتائج الحرب، خاصة وإنها تعلم مدى طيش النظام العراقي. لكن الذي لم تتوقعه هو سقوطه السريع إلى تلك الدرجة.
لكن أكثر الأنظمة قلقا كان النظام السوري، فكل المؤشرات كانت تدل على أن دوره هو التالي. وتم العمل على هذا الأساس، سواء داخليا أو خارجيا. وراح يقدم الخدمات للجانب الأمريكي في المجال الأمني. محاولا أن يحمي نفسه. كذلك سعى من خلال إرسال المقاتلين العرب والأجانب،على السواء إلى العراق بحجة محاربة الاحتلال الأمريكي، إلى إطالة أمد الحرب، وإشغال الأمريكيين عنه لبعض الوقت. وفعليا قد نجح في إبعاد الخطر المباشر عن نفسه. لكن اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، في شباط عام 2005 وضعه في قلب الخطر من جديد. أيضا حاول امتصاص الأمر من خلال سحب قواته من لبنان. لكن استمرار مسلسل الاغتيالات أبقاه في واجهة الأحداث، وتحت الخطر من جديد.
ومع ذلك استطاع أن يتجاوز مرحلة الخطر، بفضل مساعدة بعض الأنظمة العربية والغربية على السواء(يا للمفارقة، منها قطر وتركيا وإيران وروسيا وفرنسا وألمانيا).
ثم جاء الربيع العربي، وتتالت الأحداث وتمددت حتى طالت الساحة السورية بشكل مباشر.أيضا لنتذكر أن الإدارة الأمريكية، وعلى لسان الرئيس باراك أوباما، أول من دعى الرئيس السوري أن يتنحى.
وبعد مرور أربع سنوات على الثورة السورية، وحتى تاريخ اليوم، السلوك الأمريكي في عمومه، يُظهر حالة مريبة، وهذا أقل ما يمكن أن يقال، في موقفه وأداءه تجاه حرب الإبادة التي يقوم بها نظام بحق شعبه. هذا البرود في التعاطي مع هكذا قضية، ويحصل (من لحم ودم، من نار وخراب) يجعل السؤال أبدا على بساط البحث،هل إطالة حالة الصراع والاقتتال في سوريا، واستنقاع الوضع بالشكل الخطير والمدمر الذي نراه أمام أعيننا،هو في سبيل خلق «دولة فاشلة « يسهل التحكم في مصيرها لاحقاً، وفرض الحل الملائم لمصالح الغرب وإسرائيل؟!
(لا ندري هل إيران في المعادلة).
إن كان هذا هو نمط التفكير الذي حصل،ويحصل فهو كارثة بكل المعايير،على الشعب السوري، وعلى عموم المنطقة.
فالحريق لا يمكن أن يبقى محصورا، ونحن نشاهده كيف يمتد. والحصاد سيكون كارثيا بالتأكيد.
سيبقى لسان، وقد الشعب السوري، وقد سبق السياسيين والمحللين والمثقفين، منذ البدايات «ما إلنا غيرك يا ألله !» صادحا في هذا الزمن الرديء، حتى يتحقق طموحه في الحرية والكرامة والعدالة. كما سيكون العار من نصيب من خذل هذا الشعب الأبيّ المنكوب.
إذاً هي ثورة مستمرة حتى تحقيق هذه الأهداف،وقد أضيف هدف آخر،وعبء آخر،على كاهل الشعب السوري، بسبب هذا التخاذل والتباطؤ،ألا وهو، تحرير سوريا من الاحتلال الإيراني.
مروان محمد