زيتون – سعيد أبو راشد
في ذات الوقت الذي كنت أقرأ فيه خبر مفاده أن جبهة النصرة تعتزم فكّ ارتباطها بالقاعدة كانت تتداعى ذكريات الطفولة وأنا أستمع لخطباء الجمعة من على منابرهم ينادون بالصوت العالي عن المفاسد التي سوف تلحق بنا إذا ما دخل التلفزيون بيوتنا وبعضهم كان يطلق عليه (مفسديون).
ويأتون بالدلائل الشرعية التي تحرّم اقتناءه وما سيلحقه هذا الشيطان من ضرر وفساد وخاصة على أخلاق الأجيال الصاعدة ولما كان الواقع أكبر من أن يأخذ بحكمهم ومواعظه غزا التلفزيون كل بيوت المدينة، ومجاراة للأمر الواقع دخل التلفزيون إلى بيوت هؤلاء المشايخ الذين كانوا يحرمونه على المؤمنين.
ذات المقدمات والنتائج رافقت دخول الصحون اللاقطة (الدش) إلى البلد وليس ذلك بغريب لأن أهم ما يميز العقل الرجعي هو السير وراء الأحداث التي يفرضها الواقع والتخلف عن مجرايات وقائعه فهو عقل محكوم بشروطه الذاتية بنيةً وتكويناً، وبالتالي لا يمكنه أن يكون عقلاً استباقياً يتخذ قراراته بناء على شروط الذات والموضوع، وهذا ما يصل به إلى طريق مسدود ويضره مرغماً على القبول بمجريات الواقع وفي كثير من الأحيان يكون الزمن قد سبق هذه القرارات ولم يعد هنالك طائل من إقراره.
ما معنى أن تفكّ جبهة النصرة ارتباطها بالقاعدة في هذا الوقت بالذات؟
ولماذا لم تستجب للدعوات والتمنيات التي وجهها لها الآلاف من السوريبن في الداخل والخارج سياسيين وغير سياسيين ومن مشارب فكرية مختلفة بما فيها الإسلامية وبأغلب أطيافهم؟
وهل كانت جبهة النصرة على جهل من أن ارتباطها بتنظيم القاعدة سوف يسيء إلى الثورة السورية أكثر ممّا يمكن أن يفيدها، إذ أنه لا يمكن أن يكون قد خفي على النصرة أن العالم قاطبةً بما فيها الدول العربية والإسلامية لا يمكن أن يسمح بقيام كيان للقاعدة في سورية كما في افغانستان حتى لو أُحرق البشر والحجر، وذلك نظراً لحساسية موقعها الجيوسياسي، وبالتالي فإن النصرة تعرّض المدنيين في المناطق الواقعة تحت سيطرتها إلى مزيد من الخسائر والدمار في الأرواح والممتلكات هذا عدا عمّا تقدّمه من الشباب السوريين المنطوين تحت رايتها، ضحايا في معارك عبثية لا طائل منها بالمعنى الاستراتيجي للثورة وأهدافها.
والسؤال إذا كانت جبهة النصرة تعلم أن ارتباطها بتنظيم القاعدة سيجرّ على الثورة وعليها كفصيل من تشكيلات الفصائل المعارضة كل هذه الويلات.
لماذا أصلا ارتبطت بتنظيم القاعدة حتى تمّ إدراجها عالمياً على لائحة الإرهاب؟، أما كان كل مشرعيها ومنتميها يرددون ليل نهار أن الله معنا وهو من سينصرنا؟
هل اقتنع شرعيوها ومشرعيها أنه لا ملائكة بعد بدر وأن كل أدعية المؤمنين لا يمكن أن تقف في وجه رصاصة إذا لم يُأخذ بالأسباب؟، بمعنى هل أصبحت أولوية ما هو سياسي مقدمة على ما هو مبدئي وعقائدي؟ لا أخمّن ذلك!.
يبقى أن النصرة أعلنت فكّ ارتباطها مع القاعدة في هذا الوقت بالذات هو من باب التقيّة السياسية خشية من توجيه ضربة أمريكية روسية بعد الاتفاق الذي تداولته وسائل الإعلام، فإن صدقت تحليلات البعض وكان الأمر كذلك، أي حماية نفسها فهذا يعني أن أولوياتها هو المحافظة على كيانها وليست عابئة بالشعب السوري وثورته وأرواح أبنائه، أما إن كان قرار فكّ الارتباط قد جاء لاستمالة الحاضنة الشعبية ولتخفيف الضغط والنفور منها من قِبل المدنيين في المناطق الواقعة تحت سيطرتها بعد أن ضيقت عليهم في حرياتهم وأجهزت على عدة فصائل تابعة للجيش الحر لها سمعتها الطيبة بين المواطنين الفرقة ١٣ في معرة النعمان وقبلها حركة حزم، فلكي تكون صادقة في توجهاتها هذه يجب أن يتبع قرار فكّ الارتباط خطوات أخرى تؤكّد حسن نواياها ومنها مثلاً وليس حصراً الإفراج عن كل مخطوفي ومعتقلي الرأي في سجونها والاعتذار ممن اعتدت عليهم مدنياً وعسكرياً وردّ المظالم لأصحابها بما فيها الأسلحة والمقرّات التي سرقتها تحت مسمّى غنائم من الفرقة ١٣ وقبلها حركة حزم وإعادة الاعتبار للحريات الشخصية للمواطنين.
يبقى الاحتمال الأخير وهو أن قرار فكّ الارتباط جاء بناء على أوامر من جهات جارجية لعمل سياسي قادم بحيث لا تكون النصرة وارتباطها بالقاعدة عائقاً له، وفي كل الأحوال فإن القرار هو عبارة عن تخبّط ما بين السياسي والمبدئي أرغمها الواقع عليه قسراً، مثلها كمثل كل الأحزاب الرديكالية والتي غالباً ما تأتي قرارتها متخلّفة عن الزمن وبعد فوات الأوان.