هل يمكنك أن تتكهّن ما سيكون عليه شكل بقعة من الأرض قبل أن يتوقّف البركان
والزلزال اللذان تتعرّض لهما تلك البقعة؟!
كذلك –غالباً- لا نستطيع تصوير الأحداث الكبرى فنّياً، إلّا بعد مرور زمن تأخذ فيه الحياة أبعادها الجديدة، كما تتجمّد الصُهارة الناتجة عن حمم البركان، وكما تتوقّف الانهيارات والهزّات الارتداديّة بُعيد الزلزلة.
صحيح، أنّ كثيراً من الأعمال الفنّيّة كالأغاني والأفلام بأنواعها والمسرحيّات وغيرها، قد قُدّمت عن موضوع الثورة في سورية خلال السنوات الأربع التي مرّت، وعن معاناة الإنسان السوريّ خلالها، لكنّ معظم هذه الأعمال اتّخذأسلوب الإعلام والدعاية “الثوريّة” واحتوى القليل القليل من القيم الجماليّة، حتّى أنّ بعضها دخل في البشاعة. والأهمّ، أنّها خلت من البحث في الأسلوب الفنّيّ، الذي تستدعيه الحياة الجديدة المنتظرة.
أمّا اللغة الجديدة (بالمعنى المباشر) فقد انتشرت بكثافة على مواقع التواصل الاجتماعيّ والرسائل القصيرة وغيرها، إذ أصبح لدينا كجميع الشعوب “بوستات” و”تغريدات” ولكنّ لغة مقالات الرأي والسياسيّة السوريّة بقيت كما هي إنشائيّة، وكذلك ظلّ الحوار الدراميّ (فيديوهات، سينما، مسرح) تقليديّاً في أحسن الأحوال، وساذجاً مباشراً في الغالب. الأخطر من ذلك أنّ اللغة الفنّيّة الجديدة، التي من المفترض أن تبدأ إرهاصاتها، لم تُلمح فيما يُقدّم – على حدٍّ سواء – إنْ من المحترفين أو من الهواة المبتدئين.
ظاهرة الإذاعات تستحقّ التوقّف عندها، فكثرتها وسطحيّتها ملفتتان، عشرات الإذاعات الآن في غازي عينتاب وحدها وهي غير متابعة، ولو سألت أيّ سوريّ عن إحداها لوجدته يفتح فمه طالباً إعادة السؤال، أمّا لو تابعت برامج عدّة – لا على التعيين – تبثّ منها، فلن تجد فارقاً فيما بينها، وتنحدر اللغة إلى اللا شيء، وتختفي اللغة الإذاعيّة – حتّى القديمة منها – ليحلّ محلّها كلمات مشوّهة وترّهات تخطر على بال مذيعة غير مؤهّلة، يتخلّلها أغانٍ أو مقاطع موسيقيّة. قد توجد بعض الشذرات الجديدة الموهوبة، لكن ينقصها الكثير.
بصريّاً، ما يعرض من مشاهد مسرحيّة، في الساحات أو ضمن بعض الفعّاليّات المختلفة، يفتقر إلى الحدّ الأدنى من المستوى الفنّيّ؛ هل مازال الوقت مبكّراً لطرح هكذا آراء حول الفنّ الجديد ولغته؟
التجارب الإنسانيّة الأخرى، وبعضها ليس بعيداً زمنيّاً، تشير إلى أنّ البحث يمكن أن يبدأ، ولو بلفظ واستبعاد ما سبق مبدئيّاً، ويمكنّنا تلمّس بعض هذه المواقف اجتماعيّاً تجاه العلاقات على شكل المساكنة مثلاً، ولكنّ المعادِلات الأدبيّة والفنّيّة لم تقترب من هكذا “تابوهات” حتّى الآن.
على صعيد النصوص تحديداً، لم تتجاوز الكتابات المضامين السابقة والبائسة قبل الثورة، وبعضها- خصوصاً ما سمّي رواية – بدا أضحل ممّا سبقه.
هنا قد يأتي دور المسرح كمولّد، فقدرته على خلق نصّه عبر الارتجال كما في “الكوميديا ديلّارته” تجعل الحياة تعود إلى العلاقة بين المتلقّي والممثّل إلى شكلها التفاعليّ بالمعنى الجدليّ وينتج النصّ المتحوّل المرن على طريقة السيناريو المسرحيّ الخاصّ بفنّان “الكوميديا ديلّارته” ويتوقّف هذا أساساً على ذلك الممثّل – المفكّر والذي لا يمتلك أدواته التعبيريّة فقط، وإنّما يعود بالمسرح إلى جذوره من حيث هو – أي الممثّل الجديد القديم – مؤلّف العرض ومُبدّله، ومن حيث هو ابن مجتمعه ونقيضه بآن.
ربّما، بدأ بعض الشبّان السوريّين بمحاولات في هذا الاتّجاه، عن دراية أو لا، لكنّ انتشارها لم يتحقّق بعد، رغم كلّ وسائل الاتصال الحديثة، والإعلام (الثوريّ) الذي تشوّه بشكل مريع بُعيد بدء الثورة.
وهنالك نوع من الاستخدام للمسرح في قضايا المساندة النفسيّة وغيرها، يمكن أن ينعش العمليّة المسرحيّة، لكنّ سيطرة بعض المنظّمات الجاهلة أو الفاسدة تسيء إلى العرض لأنّها تنظر إلى المسرح باحتقار، باعتباره وسيلة لخداع مموّلين واستغلال منهم بحاجة للمساندة والدعم بأنواعه.
ولا بدّ أن نشير – بكلّ أسف وألم – إلى ممارسات الحكومة السوريّة المؤقّتة، ووزارة “الثقافة” فيها، والتي من المفترض أن تكون المسؤولة عن قضيّة الثقافة الجديدة عموماً. قيل في أروقة الحكومة إنّ 85% من ميزانيّة وزارة الثقافة صُرف كرواتب لموظّفي الوزارة الذين لا يعرفون الثقافة من السخافة، وأنّ الـ 15% الباقية صُرفت قهوة وشاي.
بشار فستق