عـنـدمـا هــرب والــده مـن لـيـبيـا من ظـلم الاسـتعمار الإيطـالي إختار مديـنـة ديــر الـزور السـوريـة مكاناً لإقامته الدائمة بعد أن حاول العيش لفترة قصيرة في تركيا التي عبر منها الى المكان القريب من روحه والبلد الذي يتكلم اللغة العربية التي اعتاد عليها , بل واللهجة البدوية المشتركة بين البلدين.
لم يكن محمود جلال قد تجاوز السنتين من عمره, لذلك فإنّـه سوريّ الموطن والنشأة والتربية في محيط ريفي رحبٍ يزينه نهر الفرات الذي يرسم الخضرة بضفافه على التربة الزراعية الحمراء.
وكان من الطبيعي أن يتأثّـر بالألوان الزاهية لثياب نسوة الريف في الجزيرة العربية، وكانت هذه الطبيعة تدفعه لشراء أقلام التلوين والعبث بها على صفحات دفاتره المدرسية, مما لفت الأنظار الى موهبةٍ ثاقبةٍ مبكّرةٍ جعلت والده يهتم به ويشجعه على دراسته للفنون التي برع فيها، فأرسـله الى روما الإيطالية عاصمة فنون عصر النهضة الأوربية ومعقل كبار الفنانين والمصورين العالميين.
لقد احتار في تحديد تخصصهِ في البداية والمجال الإبداعي الذي سيعمل فيه, فقد شدّته ألوان اللّوحات الزيتية ليسهب ويرسم الموضوعات المستمدّة من العادات الشعبية والتقاليد الموروثة في محيطه الريفي من جهة, وكذلك المواضيع الوطنية والقومية التي أراد أن يعبر من خلالها ويشارك في تكريس المواقف المبـدئـيّـة التي تعصف بشتى الدول العربية عند تحررها من ربقة المستعمر، لذلك نشاهده يرسم “لوحة الراعي” مع أغنامه, ولوحة “صانعة السجاد” مستفيدا من العنصر الزخرفي الملّون لإكساب اللّوحة مزيجاً لا ينتهي من الألوان المتعدّدة المأخوذة من الزخارف الهندسية في “البساط” الصوفي الممدود ــ عادة ــ فـوق أرض الغرف تارة أو ما نتابعه في الخطوط الدائرية في لوحة ناسجة “أطباق القش” تلك اللّوحة التي كان ولا يزال لها صدى وحضوراً فنياً شهيرا في سيرة الفنان محمود جلال.
كان يتابع أزياء وملابس الفلاحات وطريقة جمعهن لقصب سنابل القمح بعد مواسم الحصاد ثم تغطيسها في الأصباغ اللّونية المتعددة لتكون مادة طبيعية تُـنـسج منها أطباق القش، التي اعتادت الأسرة أن تتحلق حولها لتناول الطعام اليومي أو لتصنع منها أدوات منزلية بسيطة لتعليقها على جدران الغرف المطلية غالبا بالكلس الأبيض, وكان أساس هذه الأطباق “الزخارف الهندسية” وتجاور الألوان في لوحات دائرية بديعة.
لقد استلهم أيضا منحوتاته من التاريخ، فقام بإشادة تمثال”عباس بن فرناس” لتكريس التراث الحضاري العربي القديم ورجال العلم والمبدعين كتمثال خالد بن الوليد وأبي العلاء المعري، ومن التاريخ الحديث له تمثالٌ لجمال عبد الناصر وكذلك تمثال شهير لأطفال عامودا يزيّن ساحتها العامة، وتمثال “الثوري العربي” في دمشق.
كانت طريقته في النحت متأثرة بالمدرسة الواقعية الحديثة، مستخدما الأسطح والمساحات الواسعة واختزال الحركة في جسم الإنسان, مبتعداً عن التفصيل والجزئيات.
لقد خسرته الحركة الفنية بشكل مبكّر, وكان قد شغل أعلى المناصب الفنية وفي تأسيس أول كلية للفنون بدمشق كما شغل الموجه الاختصاصي الأول بوزارة التربية حتى وفاته عام 1975 ولقد كان له الفضل الكبير في تنمية الحس الجمالي والفني عند كثير من الفنانين السوريين والعرب الرواد بعد أن اعتبروه معلمهم الأول وقدوتهم في إنتاج أعمال فنية ملتزمة.
عبد الرزاق كنجو