طالبات المدرسة الثانويّة تنتشر بينهنّ الدعارة، هذا مبتدأ الحدث في مسرحيّة سعد الله ونّوس «يوم من زماننا»* ولكنّ الحادثة التي تكاد تقضي على حياة مدير المدرسة هي كتابات على جدران المراحيض تشتم رئيس «الدولة» الذي عُلّقت صورته بلباس جنرال عسكريّ على جدار غرفة الإدارة!
في هذه المسرحيّة، كما في جميع كتابات «ونّوس» تطرح الأسئلة الجوهريّة التي تخصّ الإنسان دون تحديد تقسيميّ، كأن يقال: قضايا المرأة؛ أو قضايا حرّيّة المرأة أو حقوقها، بل، تُثار المسألة دون مواربة أو اقتطاع، كما جرت العادة لدى المناضلين والمناضلات في سبيل تحرّر المرأة.
لا مهادنة عند «ونّوس»حين يشرّح بنية مجتمعه في يوم تراجيديّ حديث، يكثّف فيه السنوات إلى ثوانٍ، فقد انتشرت الدعارة وسيطرت كقانون على مرّ الأيّام؛ ومن الأمكنة كلّها ينتقي خمسة وبدلالات صاعقة: المدرسة – الجامع – الحكومة – بيت الدعارة – المنزل؛ يسري بينها الشارع كصُهارة بركان. وتأخذ الأنثى نصييها من كلّ ذلك الفساد والقهر والظلم والاستغلال و..، كاملاً، لا أكثر و لا أقلّ من الذكر.
تقرع المسرحيّة أجراس الخطر منذ الكلمة الأولى؛ أمر مروّع، ثمّ نرى أفعال الطالبات كانعكاس مباشر لصورة العلاقات داخل المجتمع، فهنالك عراك يدور حول مَن؟ ولماذا؟ تذهب إحداهنّ دون الأخرى إلى بيت «الستّ فدوى» البيت الذي يستقطب الحدث. بدءاً من مدرسة ثانويّة للبنات. مع وجود النقيض وهنّ طالبات تعرّضن للاضطهاد لمجرّد قراءتهنّ كتاب «طبائع الاستبداد» للكواكبيّ، فهنالك جهاز مخابراتيّ مصغّر في المدرسة متمثّل في الموجّهة «ثريّا» التي تهتمّ بالنواحي الأمنيّة ولا تأبه للعمليّة التربويّة أو التعليميّة.
الحادثة وثائقيّة، بمعنى أنّ «ونّوس» أخذها ممّا حصل فعلاً في واحدة من ثانويّات دمشق، وذهب بها في مسار واقعيّ- دراميّ من خلال متابعة مدرّس الرياضيّات «فاروق» للخيط كاشفاً علاقات وبنية السلطة في تسلسل دراميّ، مطالباً بموقف أخلاقيّ من شيخ الجامع المرتبط بجهاز الإعلام الرسميّ والمرتبط أيضاً بأموال بيت الدعارة!! وهذا ما يقود المدرّس إلى مدير المنطقة، عسى أن يتّخذ إجراءً ما لو عَلِم، ولكنّ الارتباط ببيت الدعارة يظهر تكامليّاً، إلى درجة أنّ ابنة مدير المنطقة تعمل لدى ذلك البيت والأب يعلم!
لابدّ إذاً من دخول عالم «الستّ فدوى» واستكشاف سرّ هذا الاستقطاب حول بيتها، لنرى هنالك نموذجاً آخر من النساء وهي «نرجس» الخادمة الدمية، بتجسيدها لشخصيّات تحكي قصّة «زواج فدوى» وكأنّ «نرجس» نموذج للفنّانين الذين ينفّذون ميكانيكيّاً ما يطلب منهم دون خلفيّة من الوعي، على النقيض من «فدوى» التي تبدو ضحيّة لزواج البيع المنتشر في علاقات اقتصاديّة متخلّفة، كسلعة أو بضاعة ممّا يحوّلها إلى أن تتخذ موقف الانتقام الشرس من المجتمع بأكمله. فهي تستغّل الفساد وتعيد انتاجه من خلال تصنيع العلاقات العهريّة وتوقع زوجة «فاروق» في شبكة الدعارة التي تديرها، ونرى هنا نموذجاً نسائيّاً جديداً هو الزوجة «نجاة» كضحيّة أخرى من ضحايا مجتمعنا.
هذه هي النماذج النسائيّة التي استعرضها «ونّوس» في انتقالات مكانيّة منتقاة في يوم أكثر من مكثّف، وهو يعرّي سلطة عسكريّة تدوس الإنسان وقيمه،فبعد أن شاهدنا الطالبات حنان، هيفاء، ميسون؛ وهنّ يتصارعن من أجل الصعود إلى هاوية الدعارة، ونقيضهنّ وجود حالة»منى» التي تقرأ كتباً تتعارض مع ما تريده السلطة، لأنّها تفضحها؛ ورأينا «ثريّا» كممارسات أمنيّة على التربية والثقافة عموماً، والشكل «الفنّي» المرتبط بالسلطة عبر «نرجس» خادمة بيت الدعارة الذي تديره «فدوى» المرأة القوّادة والضحيّة بآن.
لنصل إلى «نجاة» التي تحاول أن تساعد زوجها وتحسّن من وضعها الاقتصاديّ لتقع الصدمة الكبرى حين يكتشف «فاروق» أنّ زوجته هي إحدى العالقات في شبكة الدعارة، وتكتشف «نجاة»بدورها أنّ زوجها عرف بكلّ ذلك.
هنا، تكتمل الصورة المأساويّة لتردّي العلاقات الإنسانيّة إلى أحطّ مستوى، ولا يبقى أمام هذه المرأة وزوجها إلّا الموت، فالتركيبة مترابطة إلى الدرجة القصوى، ولا مفرّ من الوقوع بين حبال السلطة لو أردت أن تبقى على قيد الحياة، ولكنّك فقدت كلّ ما تملكه من كرامة إنسانيّة، كذلك ليس لديك من خيارات، أي أنّك لا تملك أيّة حرّيّة؛ هنا يقرّر الزوجان الانتحار، بقولهما: ما أشدّ وحشة هذا العالم!
ويكمل «ونّوس» بهذه الخاتمة مصير المجتمع الذي تسيطر على مقدّارته طغمة عسكريّة بجهاز أمنيّ ويسوق البشر إلى الدعارة صراحة؛ المرأة هنا تتقاسم النتائج والأسباب كالرجل، وتغدو الشخصيّات- أنثى أو ذكر -ضحايا في معمعة، تُجبر السلطة فيها الإنسان على أن يقول كما ردّدت «نجاة» أخيراً: الموت… ولا التعريص مع دولة هذه الأيّام.
*يوم من زماننا (1993) سعد الله ونّوس – الأعمال الكاملة – دار الآداب بيروت.
بشار فستق