قصر ابن وردان من عبق الورد, إلى براميل الموت براميل متفجرة, قنابل غير ذكية, صواريخ فراغية, مدفعية تدوّي, هكذا هو حال قصر ابن وردان في ريف حماة الشرقي, الذي بناه الإمبراطور البيزنطي جوستنيان الأول ويظهر ذلك من خلال عتب بازلتي يحمل كتابة يونانية تؤرخ البناء بعام (564) ميلادية.
بناه جوستنيان على سيف البادية السورية كمصيف له, وكحدّ فاصل بين النفوذين الفارسي والبيزنطي, مثلما يشكل الآن نقطة ساخنة بين الثوار والحرس الإيراني الداعمين لنظام الأسد.
يقع قصر ابن وردان في الجهة الغربية من البادية السورية ويجاور أطلال الأندرين المشهورة بخمرتها والتي خلدها عمرو بن كلثوم في معلقته الشهيرة ومنها (ألا هبي بصحنك فاصبحينا ولا تبق خمور الأندرينا), وما برح طيران نظام الأسد يقصف آبدة تاريخية صممها أشهر مهندسي العمارة البيزنطية المهندس ( ايزيدور) الذي بنى جدران القصر من الطين المعجون بماء الورد الجوري، بحيث كلما هطلت الأمطار أو رشّ الماء على الجدران تنبعث رائحة الورد, لتملئ ردهات القصر .
لا تبعد الريهجان, قرية وزير حرب الأسد سوى خمسة كيلو مترات عن قصر ابن وردان, وكانت مدفعية قرية الوزير تمطر القصر بوابل حممها إلى أن حرر الثوار المنطقة.
يتألف القصر من ثلاثةِ أبنيةٍ، القصر والكنيسة والثكنة، وهي مشيدة من الحجارة المتناوبة الأشكال بأسلوب يسمى «الأبلق.. يقطن منطقة القصر قبيلة البشاكم وهي قبيلة عربية ذات شكيمة, ويجاورها عدة قبائل كالحديديين والموالي. عاد القصر إلى أهله بعد تحريره من عصابات الأسد, برغم كل محاولات هدمه وطمس معلم من معالم باديتنا, لكن حماة القصر لا زالوا يحرسونه, ويلتصقون به, ويدفعون الموت عن الأبرياء, بينما هرب مرتزقة الأسد وحواشيه الذين يؤمنون بسلطة الديكتاتور وجواري القصر, وبقي المخلصون لوطن يستحق التضحية.
زرت قصر ابن وردان في الوقت الذي كانت فيه المعارك على أشدها، كانت براميل الموت تنزل بكل حقدها على القصر وما حوله, وما تلبث طائرة البراميل على النهاية حتى تحلّ طائرة السيخوي مكانها.
عندما دخلنا القصر, كانت رائحة البارود تسيطر على باحته, وسحب الدخان تملأ القرية التي تحمل اسم القصر , ويجهل نظام الأسد القصص التي نسجها السكان المحليين عن القصر, ومنها قصة رومانسية تختزنها الذاكرة الجمعية, والتي تقول: إن راعية فائقة الجمال, يتيمة الأم تسمى( حمده) خرجت بخراف أهلها للرعي في الصباح الباكر وكان لها ابن عم يسمى( ذيبان) تكرهه كثيراً قد هددها بالذبح إن لم تقبل به زوجاً، وحين اقتربت حمده من القصر تركت خرافها بعيداً واستظلت بفيء القصر وغطت في نوم عميق، وكانت الأمطار قد هطلت قبل مدّة على القصر، وكان ذيبان يتبعها فوجدها نائمة عند جدران القصر فمسح جبينها بيده, فاستيقظت حمده مذعورة وفوجئت بابن عمها الذي تكرهه فاستوت ووقفت أمامه ونظرت في عينيه طويلاً ورائحة الورد تنتشر من جدران القصر المبلل بالماء, ثم أمسكت كفّه مذهولة, ومن يومها انتشرت الحكاية الأسطورة كأشهر قصة حب في منطقة البادية السورية، لتؤكد أن رائحة ورد القصر حركت بواعث الاطمئنان والحب لدى حمده وغيرت عواطفها من كره شديد إلى حب كبير.
لا يزال القصر شامخا، على سيف البادية، حيث تدور معارك الكرامة لتحرير المنطقة من رجس نظام القتل. فالمنطقة بتسامح أهلها وكرم سجاياهم, انقسموا إلى غالبية ثائرة ضد نظام الأسد, وأقلية من الشبيحة هربت بعيدا عن منطقة القصر , حيث عصابات الحقد, ولن تهدأ ثورتهم إلا باقتلاع المجرمين.
ما يميز القصر قنطرة آيلة للسقوط, يقول علماء الآثار, إنها بقايا قبة الكنيسة الضخمة التي لا مثيل لها سوى قبة “كنيسة سان فيتال” في إيطاليا.
براميل الحقد تمطر القصر , ونحن عشنا بين ردهاته, واستمعنا لنسيج من الروايات المحكية عن تاريخ هذا القصر الفريد من نوعه, حلمنا بأفاعي القصر وعقاربه والحوريات اللواتي نمن يوما في ظلاله واستنشقنا رائحة الورد المنبعثة من جدرانه, وكتبنا عن تاريخه, والقبائل التي مرّت به, والمستشرقين الذين هالتهم روعة البناء.
وأهله الذين دافعوا عنه وطردوا كل الغرباء, لن نخشى على مصير قصر يمثل ذواتنا.
وأنت على سطح القصر , ترى في عيون الثائرين بريق يمتد إلى أعماق التاريخ لا يحمون مجرد صرح, بل قطعة فريدة من سورية الجميلة, يتقدم ثائر ليضع حجرة مكانها, كان قد اقتلعها برميل حاقد على تاريخ يحكي قصة الحضارة. فشتان بين نظام يهدم حضارة, وأبطال متجذرون في أرضهم, يصنعون فجرا جديدا, وملاحم بطولية عزّ نظيرها, لتصطبغ جدران القصر بدماء الأحرار, وكانت النتيجة تحريرا كاملا لمنطقة القصر التي دنسها الأوغاد الذين لا يعنيهم الإنسان فكيف التاريخ ؟
القصر بأبنيته الثلاثة, يسجل مدونة جديدة, عن نظام قتل الأبرياء الذي حاربهم في تاريخهم, عن انتصارات الأحرار في منطقة سمتها التسامح, فكشف الطغاة وهزائمهم ومدى كراهيتهم للتاريخ وحقدهم الأعمى.
تصيبك النشوة وأنت تعتلي سطح القصر وتترامى أمامك القرى المتناثرة وهي تلتف حول القصر كإٍسوارة في معصم فتاة جميلة, منطقة ترفل بثوب الخلاص من براثن المدنسين لجمالها.
قصر ابن وردان الذي كتب عنه الأُثاريون والمؤرخون والأدباء, يصحو كل صباح على براميل الموت الحاقد, ثم يأتي الأحرار يرممون ما خرب منه، القصر الذي صمد في وجه الزلازل العاتية ظلّ شامخا بأحراره وهرب المرتزقة والعهرة والعابرون وترك أحد الرعاة أغنامه بعيدا عن القصر, وأسند ظهره لجداره لينام قرير العين.
تركي المصطفى