إن تاريخ أي حضارة قائمة مرتبط بالإرث الحضاري الذي تمتلكه هذه الحضارة أو المنطقة, ويتمثل هذا الإرث بالآثار و الصروح التاريخية القديمة التي تشير إلى حضارة الأولين, وقد تؤدي سرقة هذا الإرث الحضاري الى تشويه ماضي وحاضر الأمة, تنشط عمليات سرقة الآثار وبيعها في البلدان المضطربة بفعل الحروب, وتعتبر سوريا أرضا خصبة لنشاط شبكات سرقة الآثار وبيعها في ظل الأوضاع الأمنية التي تمر بها.
تتمتع سوريا بتاريخ وإرث حضاري عريق لا يخفى على أحد، فهو يمتد إلى قرون ما قبل الميلاد، ولا يمكن المرور في أي منطقة من سوريا دون التوقف عند أحد تلك الصروح العريقة، فموقع سوريا الجغرافي المتميز وتاريخها الضارب في القدم جعلها مهدا للحضارات ولها أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ البشري.
التدمير للمواقع الأثرية:
أسهمت الحرب القائمة في سوريا منذ عام 2011 وعبر أربع السنوات الماضية في تدمير هذا الإرث الحضاري التاريخي، فنقل المعارك والقصف العشوائي والاشتباكات في المواقع الأثرية والتاريخية أسهم في تدمير معالم حضارتها دون مراعاة لأهمية هذه الأماكن من جميع الأطراف ويضاف الى ذلك تفجير السيارات المفخخة بالقرب من المتاحف الأثرية أو تحويل بعض المتاحف الأثرية الى حواجز عسكرية تابعة لقوات النظام وبالتالي العبث بمحتوياتها.
الحفر والتنقيب العشوائي:
مع انعدام المؤسسات الراعية للمواقع التاريخية والتي تحافظ على أمانها وسلامتها، قام العديد من سكان المناطق القريبة من الآثار في المناطق المحررة وبعض المناطق الخاضعة للنظام بعمليات حفر وتنقيب عشوائية بهدف أخراج قطع أثرية وبيعها، وأسهمت عمليات الحفر بتخريب وإلحاق الضرر بالكتل المعمارية والتي تحتاج الى خبراء تنقيب لإخراجها، دون اكتراث من سكان تلك المناطق الذين قاموا بالحفر لحجم الضرر والأذى الذي سيلحقونه بتاريخ سوريا.
سرقة الآثار وبيعها في السوق السوداء:
نشأت العديد من العصابات المتخصصة بشراء الآثار من السكان بأسعار زهيدة وتهريبها الى خارج سوريا لبيعها بأسعار باهظة جدا، وغياب الأمن والمحاسبة جعل هذه العصابات تقوم بعملها بسهولة مما زاد من أعداد القطع الأثرية المهربة الى خارج سوريا وامتد عمل تلك العصابات ليشمل الاتجار فيها بشكل شبه علني وخاصة في المناطق الجبلية المتطرفة التي تعد من المناطق الغنية بالآثار بالإضافة لقلة وجود السكان فيها.
أماكن وشهود:
جبل الزاوية بمحافظة إدلب، شهد عدة حالات لسرقة الآثار، تعتبر منطقة جبل الزاوية منطقة مهمة حيث تنتشر فيها صروح وأديرة أثرية كثيرة، قرية البارة في جبل الزاوية تحتوي صرح اثري كبير يعود إلى قرون ما قبل الميلاد،حالة عدم الاستقرار في هذه المنطقة و القصف شبه المستمر و غياب جهة تكون مسؤولة عن حماية أثارها خلق ظروف مثالية لنشاط لصوص الآثار .
يذكر المواطن (أ حمد. ط ) من قرية البارة في جبل الزاوية، أنه وبتاريخ 28/6/2014 قامت مجموعة مسلحة مجهولة بالتنقيب على الآثار في منطقة أثرية يوجد فيها هرم اثري كبير، تقع هذه المنطقة على الطريق الواصل بين قرية البارة وقرية ابلين، يخلو هذا الطريق ليلا من المارة بشكل نهائي، ويذكر أحمد ” في الصباح ولدى مروري من المنطقة التي أعرفها جيدا، شاهدت أدوات حفر بجانب الهرم الأثري و الحفر كانت على عمق متر ونصف و عرض متر تقريبا، و قد كان عدد الحفر خمسة، و لدى سؤالي لأحد المدنيين في منزل مجاور، ذكر بأن مجموعة مسلحة أتت في الليل إلى المنطقة، ولم نعلم ما هو هدفهم ولم نقترب منهم، استمر وجودهم قرابة ساعة ونصف “
ويشير أحمد إلى وجود شبكة متكاملة تعمل على التنقيب عن الآثار في المنطقة وبيعها، حيث يذكر أحمد:
” التقيت بأحد أفراد هذه الشبكة في قرية كفرنبل، وقد أشار هذا الشخص إلى امتلاء المنطقة بالآثار التي يجب استغلالها، كما أفاد بسياق الحديث بأن مستعد لشراء أي قطعة أثرية وبمبالغ ضخمة “
قرية ترمانين:
قرية ترمانين في ريف محافظة إدلب , تحوي هذه القرية عدة أديرة أثرية، منها دير ترمانين الأثري الشهير , وتنتشر في جبال القرية عدة أضرحة أثرية، منها مغر أثرية كبيرة تعود إلى قرون ما قبل الميلاد، تحررت قرية ترمانين في عام 2012 , وعلى امتدادعامي 2013 و 2014 رصدت عدة حالات تنقيب عن الآثار في جبال القرية.
( ياسر , أ, ط) هو أحد سكان القرية، يسكن في منطقة جبلية من القرية وعلى مقربة من أحد المعالم الأثرية فيها، أفاد ياسر لجريدة زيتون بأن أصحاب المنازل القريبين من المعلم الأثري وعلى مرأى من باقي أهل القرية، قاموا بالتنقيب عن القطع الأثرية من خلال الحفر العميق في أحد المغر الأثرية و قد عثروا على قطعة حجرية يوجد عليها رسوم ذات دلالات غير مفهومة، وقاموا ببيعها لتاجر شهير في القرية بمبلغ 400 ألف ليرة سوري.
تل تمر:
مدينة تل تمر بريف محافظة الحسكة، أغلب سكان هذه القرية هم من الأشوريين، يوجد في القرية تل اثري شهير، يحتوي هذا التل على العديد من القطع الأثرية المدفونة، تمثل هذه القطع بمجملها ارث حضاري أشوري عريق له مكانة خاصة لدى سكان القرية، حيث يعود تاريخ هذه القطع لآلاف السنين، في الرابع من شهر كانون الثاني لهذا العام، استقدم مسلحو قوات حماية الشعب الكردية المسيطرة على المدينة منذ أيار عام 2013 عددا من آليات الحفر إلى التل الأثري، بدأت علميات الحفر في التل بتغطية من مسلحي قوات حماية الشعب الكردي، استمرت الحفريات لمدة يوم كامل ومنع العامة من الاقتراب من التل، ويفيد (سراج. ك ) وهو أحد نشطاء المدينة “لقد استقدمت القوات الكردية آليات الحفر وبدأت عمليات التنقيب في التل الأثري، لم يستطع احد منعهم من ذلك باعتبارهم القوة المسيطرة على المدينة، استمرت عمليات الحفر لمدة يوم كامل، عثر خلالها مسلحو الحزب على عدد من القطع الأثرية، وذلك باعتراف عناصرهم في المدينة، لم نتمكن بعدها من تحديد مصير هذه القطع، وأذا ما كانت موجودة أم بيعت”
تدمر:
مدينة تدمر الأثرية في محافظة حمص، لم تسلم أيضا من السرقات، ذكر ناشطو المنطقة عن قيام عناصر من القوات الحكومية باقتلاع تمثالين حجريين صغيرين من داخل أحد الأديرة في المدينة الأثرية في تدمر، تم ذلك في شهر آذار من العام 2012 حيث أفاد (خالد .ح) لجريدة زيتون:
“في شهر آذار من عام 2012، قام قرابة 45 عنصر من الجيش النظامي باقتحام المدينة الأثرية في تدمر، استمر وجودهم في المدينة قرابة 7 ساعات، لم يترك خلالها الجنود أي معلم اثري إلا و تركوا عليه حفرا أو كتابة تشير إلى أسمائهم و الأماكن التي أتوا منها، عند خروجهم مساء من المدينة شوهد الجنود يحملون عدة أكياس كبيرة لا يعلم محتواها، ولدى دخولنا إلى المدينة في اليوم التالي شاهدنا اختفاء تمثالين حجريين صغيرين من أحد القاعات في المدينة، اقتلع التمثالان الحجريان بقوة وعنف، فأثار الدمار في مكان اقتلاع التمثالين تشير بشكل واضح إلى الأثر التخريبي الذي تم إحداثه، لم تلقى هذه الحادثة أي صدى لدى إدارة المدينة ولا لدى الأفرع الأمنية فيها رغم علم الجميع بالحادثة، وحتى تاريخ اليوم لا يزال مصير القطع الأثرية المسروقة مجهولا”
تواجه الآثار تدمر خطرا كبيرا مع اقتراب تنظيم داعش المدينة والذي من المتوقع أن يقوم بتدميرها وتفجيرها كما فعل بآثار متحف الموصل في العراق.
قرية العكيرشي بريف محافظة الرقة:
تعتبر هذه القرية غنية بالآثار الدفينة في تلال و مغاور القرية، يعلم جميع سكان القرية بأماكن وجود الآثار الدفينة، يعود تاريخ هذه الآثار إلى حقب زمنية تمتد حتى الألف الثاني قبل الميلاد، ذكر نشطاء المنطقة انه وبتاريخ 26/ كانون الثاني / 2015 عثرت عناصر تابعة لتنظيم داعش على كمية ضخمة من الآثار في أحد تلال القرية، تنوعت هذه الآثار في محتواها من أحجار وتماثيل و أواني ولوحة فسيفسائية، سادت الخلافات عناصر التنظيم حيث أراد بعضهم تدميرها وأراد الآخرون الاستفادة من ثمنها بعد بيعها، جمعت هذه الآثار في عدة سيارات تابعة للتنظيم و تم أخذها إلى مقرات التنظيم , ولم نعلم شيء عن مصيرها لاحقا.
التاريخ في سوريا يباع و يسرق و يدمر على مرأى الجميع وحتى توفر جهات تتحمل مسؤولياتها اتجاه تاريخ سوريا، الآلاف من القطع الأثرية ستباع و تهرب و تعرض في دول ستنسبها لها.
تحقيق: داليا معلوف