زيتون – أسعد شلاش
اهتمام العائلة بالشؤون الوطنية والقومية كأغلب العائلات السورية في فترة الستينيات تركت آثاراً واضحة على الطفل، ابن الاثني عشر ربيعاً، فكان ناصري المشاعر، لما كان يمثله الرئيس المصري جمال عبد الناصر حينها باعتباره حامل لواء القومية العربية التي اعتبرت أن الاحتلال الصهيوني لفلسطين طعنة في خاصرتها ويجب التخلص منها بأي شكل من الأشكال، وعبد الناصر هو من نذر نفسه ليقود الأمة في معركة خلاصها.
كان ذاك الطفل يحدث الأطفال عن كل ما يسمعه في نشرات الأخبار وما يتحاور به الأهل والزوار، مزهواً يُخبر الأطفال أن عبد الناصر لديه ثلاثة صواريخ هي (القاهر والظافر والناصر)، وأنه سيطلقها في اللحظة المناسبة وبعدها تدخل الدبابات العربية لتزيل إسرائيل من الوجود وترميهم في البحر ويعود الفلسطينيون إلى ديارهم، يستمع الطفل إلى كل ما يدور حوله من أحاديث تتباهى بقوة العرب وأخوتهم ودعمهم بالمال لما عرف حينها بدول الصمود والتصدي وهي (مصر سورية الأردن)، وبهشاشة الكيان الصهيوني واقتصاده المتهاوي والموشك على الانهيار، وجاءت ساعة الحسم في السادس من حزيران من عام ألف وتسع مائة وسبعة وستون، أغارت الطائرات الإسرائيلية على المطارات المصرية واشتعلت جبهة الجولان، والجبهة الأردنية، غمرت الطفل نشوة وفرحاً لم يستشعره من قبل كيف لا وبعد أيام سينتظر العرب وتزول إسرائيل من الوجود ويلقى بها في البحر ويعود الفلسطينيون إلى ديارهم وتتفرغ الدول العربية لبناء نهضتها مستفيدة من الأموال التي كانت تصرف لتسليح الجيوش العربية والتي تبلغ قيمتها كما كانوا يدعون ونصدقهم ثمانون بالمئة من مداخيل تلك البلاد المجاورة لإسرائيل والتي يعيش قسما من سكانها تحت خط الفقر.
يجلس الطفل أمام المذياع، يحرك مؤشره متنقل بين كل الإذاعات العربية عله يسمع ما يثلج صدره من انتصارات يصغي إلى ما يقوله أهله والزوار، يسرق المذياع الوحيد في المنزل يدخله إلى غرفته يسمع من جديد يحاول أن يربط بين ما يسمعه عله يتبين ما يدل على النصر الأكيد، لكن الصورة تبدو ضبابية المعالم، وليس هنالك ما يدل على النصر.
أغانٍ وطنية، بيانات عسكرية مقتضبة وغير واضحة، في اليوم الرابع بدأت الحالة تتوضح أكثر تهدجاً وحزناً في نبرة من يتلو البيانات واستنهاض لماضي الأمة وأمجادها والتذكير بأبطالها وانتصاراتهم في معاركها على ما يبدو الوقائع ذاهبة نحو الخسران والهزيمة.
أفكار متشائمة سيطرت على مشاعر الطفل أيعقل أن كل ما وعدنا به القادة من انتصارات محتمة هو كذب، في اليوم السادس تكشفت الأمور ولم يعد هنالك أية قدرة على الكذب والتبرير فجيوش العدو الإسرائيلي احتلت سيناء وكذلك الضفة الغربية من الأردن وسيطرت على الجولان، وراحت تتكشف الحقائق وتقول أنه ومنذ اليوم الأول أغار طيران العدو الصهيوني على جميع مقرات الدفاع الجوي المصرية، ودمرتها عن بكرة أبيها وأخرجتها من المعركة نهائياً، وبدأ البحث عن مسميات ما حصل، هل هي هزيمة؟ أم نكبة؟ أم هي نكسة؟ وسنقوم متعافين بعدها وراحت تنتشر التبريرات التي فبركت في دوائر السياسة وأقبية الاستخبارات، في الأوساط الشعبية عن أسباب الهزيمة وكان السبب الرئيس هو خيانة بعض القادة والضباط من المصريين والسوريين، وعقد المؤتمرات على المستوى القطري والقومي، لبحث الأسباب واستخلاص النتائج والعبر، لم يكن الصغير معنى بكل ما يدور حوله من كل هذه الترهات، كان يعنيه أنهم كذبوا عليه وأن ما يدعى أمة عربية لها أمجاد وماضٍ عريق كما يدعي ويتباهى أبناؤها استطاعت أن تهزمها دولة صغيرة حديثة التشكل محتلة لأرضها.
انكسر وجدان وعقل الصغير وانهزمت روحه وأحس أن كل ما حوله باهت وغير ذي جدوى وراح ينام ويصحو وفكره الطفولي يفكر بالخلاص وروحه أجهشت بالبكاء ومازالت.