في رحاب الثورة السورية بدأت تنقلب في أذهاننا معظم المسلمات, فمن منا لا يدرك الصورة العلوية للملائكة الأبرار الذين لا ينفكون عن مساعدة الحق والخير والعدل وحمايتها من أتون النار التي غالباً ما يصليهم بها الأشرار, والصورة الجحيمية الهابطة للشياطين أبناء الباطل والظلم والظلام.
إلا أنه وفي خضم ثورتنا بدأت تتكشف لنا صورة جديدة تبرز الملائكيين بقلنسواتهم البيضاء يقتحمون أهداب الموت, ليتنازعوا معه على أشلاء حياة بريئة, يغوصون في جوف الردى ليخرجوا منه طهارة حياة أو براءة طفل, وقد لا يسعفهم الحظ فلا يخرجون من ذلك الجوف أبداً, غير آبهين بغضب هذا الوحش الكاسر الذي لا يتورع عن التهامهم أحيانا مع ما في أيديهم من أشلاء حياة ممزقة كانوا يحرصون على أن يرسموا بسلامتها ضحكة على محيا أم أُضرمت النار في أحشائها على فلذة كبدها.
نعم من الممكن أن يتحول الإنسان إلى ملاك وذلك ببساطة عندما يمتهن مهنتها من محبة الخير والعدل والسلام والمخاطرة بمهجة ربيعه في سبيل إنقاذ البراءة والطفولة والطهارة, ولو كانوا سيارين على الأرض, بين الناس, يبحثون في أزقة الموت وبين قطرات الدماء أو أرجاء الدمار, عن روح تئن, أو حياة تتأوه, لخطفها من بين نيوب الموت, وإرضاعها من أرواحهم. إنهم باختصار رجال الدفاع المدني بقلنسواتهم البيضاء.
كما من الممكن أن يتحول الإنسان إلى شيطان وذلك أيضاً عندما يمتهن مهنتها من نشر الدم والدمار والظلم ولو كان في السماء يعتلي طائرته, يبصق الجحيم على الحياة لمجرد أنها حياة, يكره النور, يتغذى على ضفاف الدم, يسرق الحياة, وكأنه يتنازع مع الملائكة الأرضيين على حيوات الأبرياء.
• تأسس الدفاع المدني في محافظة ادلب مع أول طائرة سلحت الدمار على هذه المنطقة المنكوبة, إلا أن التأسيس الرسمي الذي أتى بعد مناشدات لتشكيل فريق دفاع مدني معتمد و مجهز بالآليات تشكل في أواخر الشهر التاسع من العام المنصرم , وقد تشكل الفريق من شباب متطوع, كان يقوم بعمل الدفاع المدني في ظروف القصف بشكل طبيعي دون تنظيم، و بعد الأخذ والرد تم تشكيل فريق يتبع لهيئة الدفاع المدني السوري, ووصلت له آليات ومعدات يدوية، و قدمت لهذه الفرق بعض المنظمات المعنية بحقوق الإنسان والطبابة وبعض اللجان المحسوبة على الحكومة السورية المؤقتة بعض الدورات التمهيدية بالإنقاذ والإسعاف والإطفاء وصقل الخبرة التي اكتسبوها بالممارسة من قبل التشكيل.
يحوي الدفاع المدني في محافظة ادلب عشرين مركزاً, كل مركز يضم من 20 إلى 25 عضواً, له إدارة مقرها في تركيا إلا أن مدير هيئة الدفاع المدني رائد الصالح وهو من جسر الشغور من الشباب العملي المتواجد في كل مكان يعمل بجد ويصر على قضاء أغلب وقته في الداخل السوري.
يتوزع أعضاء الفريق الواحد بين عناصر إطفاء وعناصر إنقاذ وعناصر إسعاف ومدير ومسؤول مستودع, وعند الضرورة يلبي الجميع نداء الواجب الذي أقسموا على إدامته طاهراً بقطع النظر عن تلك التقسيمات.
قدم فريق الدفاع المدني على مستوى محافظة ادلب أربعة شهداء حتى الآن, فيما تمكنوا من إنقاذ 547 ضحية في الأشهر الأربعة الأخيرة, تدعمهم عدة منظمات عالمية بالإضافة إلى وحدة التنسيق والدعم ACU .
ويشمل الدعم التجهيزات والمعدات بالإضافة إلى كلفة تشغيلية ورواتب, إلا انه في الفترة الأخيرة بدأت تلك المراكز تعاني من نقص حاد في التجهيزات والمعدات, وذلك بسبب النزيف لمستمر لمدخراتها المحدودة بعد الحملات الشرسة التي يشنها النظام على المحافظة, وقد وصل عدد الغارات التي يشنها النظام على مدينة سراقب وحدها في يوم واحد إلى 25 غارة جوية, كما أن انقطاع الرواتب على عناصر الدفاع المدني منذ ثلاثة أشهر فاقم المعاناة واضطر العناصر على التناوب في حمل أعباء هذه المهمة, يناوب يوماً يسعف فيه الجرحى ويعمل يوماً ليجني ما يقوت به عياله.
يقول ليث فارس وهو أحد أعضاء الدفاع المدني في سراقب:
( عندما تطوعنا منذ سنتين للعمل في الدفاع المدني كان دافعنا للعمل حاجة البلد لأشخاص يمتلكون الجرأة والحماس وحب الوطن وأهل البلد ومساعدة الناس في حالات القصف الانفجارات الكبيرة,
وبعد تطور قدرات الفريق بتنا نقوم بأعمال كثيرة كحوادث السير والفيضانات وتراكم الثلوج و إزالة الأنقاض و تصليح الطرقات وأعمال أخرى, ولقد ساعدنا على أداء مهمتنا أن أكثرنا أصحاب أعمال ميدانية كالبناء والتمديدات والنجارة والكهرباء .. وخبرتنا بالعمل الميداني في هذا المجال أعطتنا القدرة على العمل بطرق سليمة.. بالإضافة الى دورات نقوم بها كل فترة وفترة.
والتحديات التي تواجهنا بشكل رئيسي هي قلة الدعم وأعني بقلة الدعم القدرة على استمرارية تشغيل الآليات وعنف النظام الذي ما فتئ يستنزف كل طاقاتنا في ظل صمت العالم.
يوجد عندنا في مركز سراقب تركس جديد واطفائية قديمة ونستخدم آليات المجلس المحلي عند اللزوم, نستعين بها للتخفيف قدر المستطاع من وطأة حمم النظام على الأبرياء العزل.
ولدى سؤالنا له عن كيفية تدبر أوضاعهم بعد انقطاع رواتبهم أجاب:
نتدبر أمورنا وأقولها بصراحة نحن نستدين أحيانا لتشغيل الآليات وأحيانا ننسق ولكن بشكل ضعيف مع المجلس المحلي, وبالنسبة لنا كعناصر لا يختلف الوضع عن وضعنا كمركز ولكن بدأنا عملية التناوب بالدوام حتى يُتاح لنا العمل وتأمين لقمة عيشنا.. وبنفس الوقت يستمر عملنا بالدفاع وعند الطوارئ نجتمع ).
ويرى ليث أن المعوقات التي لو أزيلت لكانوا أقدر على أداء واجبهم والتي تتجلى في المرونة الإدارية في العمل والحصول على دعم ثابت يستطيع العنصر عندما يعود في المساء إلى بيته منهكاً وقد تلطخت ثيابه بدماء الجرحى أن لا يسمع صراخ أطفاله يتضورون جوعاً وفاقة.
والتنسيق بين المراكز جيد وهناك تفاعل وعمل جدي بخصوص التعاون بين المراكز عند الضغط الشديد أو العمل الأكبر من قدرة المركز.
هذا العمل يحظى بتقدير واحترام المدنيين, تجدهم عندما يصل فريق الدفاع المدني يفسح الجميع لهم المجال ليقوموا بعملهم, وحتى الفصائل العسكرية اتفقت فيما بينها على تسهيل عمل فرق الدفاع المدني وعدم عرقلتها لأنهم فرق مدنية تعمل دون تبعية إلا للإنسان…
ويشير السيد فارس إلى أنه لا يهمنا في عملنا من ننقذ… مايهمنا أنه إنسان, وعلينا إنقاذه وإسعافه فان كان عدو هناك من يتابع الموضوع في السماء.وان كان صديق فهو من أهلنا… مهنتنا إنسانية بحتة ولا نفرق بين ذكر أو أنثى عدو أو صديق, مدني أو عسكري عملنا لخدمة الإنسان تحت أي صيغة وبأية صفة كان عليها.
من هنا وبعد هذا التقديم لن تستغرب بعد اليوم عندما ترى ملائكة في الأرض وشياطين في السماء.
محمد العبد الله