هذا ليس رثاءً.
لطالما خطر لي لو أن غسان مطر كان يمتلك وجهاً أرقّ بتفاصيله وتعبيراته، بدلاً من ملامحه القاسية، وشعراً مصففاً بطريقة غير تلك التي لم تتغير منذ نهاية الستينيات، وفي كل الأفلام التي مثّل، على الرغم من تغير الأدوار التي لعبها، وصوتاً أقلّ خشونة من صوته الذي أضاف إلى حضوره ميزة خاصة، وهوية غير هويته الفلسطينية، المرتبطة باللعنة في مهن ووظائف كثيرة، هل كان سيحالفه الحظ ليكون نجماً بارزاً، وهو الذي عمل في السينما المصرية أكثر من أربعة عقود؟
بدأ غسان مطر مهنته ممثلاً محترفاً منذ نهاية الستينيات، ولعب أدوار بطولة في أفلام تجارية واكبت صعود المقاومة الفلسطينية، مثل “الفلسطيني الثائر”، للسوري رضا ميسر عام 1969، و”كلنا فدائيون” عام 1969 أيضاً، للبناني الأرمني غاري غاريبديان. وعلى الرغم من أن تلك الأفلام تركت أثراً في الأوساط الشعبية التي تعاطفت مع المقاومة الفلسطينية منذ انطلاقتها، حتى ذهب الأمر ببعض الفتية إلى الالتحاق بصفوف الفدائيين الفلسطينيين تأثراً بتلك الأفلام، إلاّ أنها لم تترك الأُثر نفسه على المستوى السينمائي، وبالكاد تُذكر حين يتم الحديث عن السينما حول فلسطين.
كنت أعلم أن غسان مطر فلسطيني الجنسية، إلا أنني لم أعلم أنه سكن في مخيم البداوي مع عائلته في بداية اللجوء الفلسطيني إلى لبنان، وأن اسمه ليس اسمه المتداول، بل عرفات المطري. وكنت أعلم أنه أسمى ابنه جيفارا، تيمّناً بالثائر الأرجنتيني، وأن جيفارا وأم غسان وزوجته تم تصفيتهم على أيدي عملاء المخابرات السورية في منزلهم في بيروت، في أثناء ما عُرف بحرب المخيمات التي شنتها حركة أمل الشيعية ضد المخيمات الفلسطينية، بدعم من نظام حافظ الأسد بين عامي 1985 و1987، عقاباً لغسان مطر لقربه من ياسر عرفات التي طالما كان مطر يفخر في مجالسه الخاصة بمدى عمق العلاقة، ويحلو له أن يذكر أنه استضاف عرفات أياماً في ذلك البيت نفسه الذي شهد الجريمة البشعة بحق عائلته، في أثناء حصار بيروت 1982.
تلك المأساة الشخصية التي عاشها غسان مطر، والتي بلغت ذروتها، لم يقابلها دور سينمائي يستطيع الممثل أن يبلغ به ذروة الإبداع في التمثيل، فلم تقدم له السينما المصرية طوال عقود من العمل فيها سوى دور الشرير القاتل، أو رجل العصابات المتماهي بزيه وأدائه مع رجال المافيا في السينما الأميركية التجارية. ربما لم يكن في السينما المصرية فسحة لممثل يلعب دور الشرير البطل، وله ملامح كالتي تميز غسان مطر، فهو لا يشبه ملامح المصريين العاديين، لا في اللون ولا في الطول ولا في الشكل العام. ولذا، كان حضوره في تلك الأفلام باهتاً، وكأنه يمثل دور الخواجا الشرير الذي عرفته السينما المصرية، ولم تقدمه بإتقان يوماً، لهيمنة التنميط في اختيار الشخصيات.
حتى أفلامه في السنوات الأخيرة، ذات الطابع الكوميدي، مع ممثلين كمحمد هنيدي وأحمد مكي، لم تلق النجاح، فأنت حين تشاهد غسان مطر، بميزاته الفيزيائية الجسدية، يلعب دوراً كوميدياً، يصعب عليك تصديق البعد الكوميدي في شخصيته، على الرغم من محاولاته الجادة، إلاّ حين يتكلم، ففي صوته الخشن الأجش دعوة إلى الضحك من المفارقة.
الفرصة الوحيدة ربما التي أعادت غسان مطر، بعد عقدين من التمثيل في السينما المصرية لأدوار الشر، إلى لعب دور الفدائي الفلسطيني والعاشق لواحدة من أهم نجمات السينما العالمية، الممثلة الألمانية هانا شيغولا في فيلم “دائرة الخداع”، للمخرج الألماني الكبير فولكر شلندورف عام 1981.
ربما يكون غسان مطر المختفي وراء قسوة التكوين الجسدي مثالاً لتراجيديا إنسانية، لاجئاً فقد ابنه وزوجته وأمه غيلةً، بسبب انتمائه، والمفارقة الدرامية أن معظم أدواره السينمائية تناقضت تماماً مع هذه التراجيديا التي تدعو إلى التعاطف والتأمل.
نصري حجاج
العربي الجديد