– اندثار وتشويه معالم أثرية على يد نازحين من جحيم المعارك
- إرث سورية الحضاري مهدد بالزوال
- قاطنو المناطق الأثرية يواجهون كوارث صحية
- اليونيسكو: أطراف النزاع في سوريا تتحمل مسؤولية حماية التراث الذي لا يمكن فصله عن الحرب
لم تتوقع الطفلة الشقراء، مرح، انتقال مسرح أحلامها المستقبلية وملاعب طفولتها، بعدما هُدم منزلها نتيجة النزاع الدائر في سورية، إلى مواقع اثرية مبنية بالحجر في شمال البلاد.
تتقافز الطفلة ذات العشر سنوات مع أقرانها فوق ثلاثة توابيت حجرية أثرية داخل مدفن روماني ضخم منحوت داخل حجارة المنطقة.
شكل التوابيت مخروطي وتعود لإحدى الأسر الثرية في تلك الحقبة. لكنها بدون رقيب الآن ومهددة بالاندثار، مذ باتت مأوى آمن لخمس وستين عائلة سورية لجأت إليها هرباً من نيران المعارك المشتعلة في بلادهم منذ أربع سنوات.
تعيش مرح، الطفلة النابضة بالحياة، ضمن قصر أثري ذي تصميم روماني أعادت أسرتها تأهيله ليتناسب مع متطلبات السكن في هذه المناطق الشامخة منذ القرن الثاني الميلادي. وهي من أهم الآثار في العالم، بحسب المؤرخ والعالم الفرنسي جورج تات، المدير السابق للبعثة الأثرية الفرنسية في سورية (بين منتصف التسعينيات إلى منتصف العقد الماضي).
أقدمت الأسرة النازحة على تقطيع الموقع إلى أكثر من غرفة وبناء جدران إسمنتية داخل القصر حتى يتلاءم مع عدد أفرادها. وفُتحت نوافذ وأبواب جديدة، ما أدى إلى تغيير شبه كامل لمعالم المكان في بلدة سرجيلا، وهي جزء من سلسلة البلدات الأثرية التي يطلق عليها اسم “المدن المنسية”.
معظم القاطنين في هذه المدينة التاريخية أحدثوا تغييرات في شكل الأبنية، من إزاحة أحجار أثرية داخل الأبنية، وصولاً إلى طلاء إسمنتي للجدران. وهكذا تحولت آثار البارة وسرجيلا وغيرها ضمن سلسلة من 40 قرية إلى مخيم إيواء ارتجالي لعشرات النازحين، حسبما وثّق معدا التحقيق في سلسلة جولات ميدانية في المنطقة.
وتضررت معظم نفائس هذه القرى التي تضم خمس كنائس عتيقة، وسبعة عشر قصراً ونحو مئة منزل أثري.
سرجيلا
في سرجيلا، أحدث السكان الجدد تغييرات في ملامح الحمامات الملكية والكنيسة الأولى، بما في ذلك تشييد جدار إسمنتي داخل البناء الاثري وتقسيم الباحات الواسعة إلى غرف صغيرة تعلوها شوادر للحماية من الأمطار وحرارة الصيف. معظم الموائل العتيقة والقصور الأثرية غير مسقوفة.
ورصد معدا التحقيق عملية تدمير وتجريف خمسة أبنية أثرية تقع ضمن أراضٍ زراعية قريبة من المنطقة، بشكل شبه كامل.
ولم يكتفِ القادمون الجدد بتأهيل مساكن تناسب احتياجاتهم، بل ذهب بعضهم إلى تحويل حمامات رومانية تتميّز بها هذه القرى الأثرية التي تخفي أسراراً وحكايات خمسة قرون إلى أماكن تتناسب مع مشاريع تجارية على أنقاض هذا الإرث الإنساني، بدءاً بتركيب صالونات حلاقة مروراً بدكاكين وانتهاءً بالمقاهي.
بعيداً عن أي رقابة رسمية أو حل بديل لسكن هؤلاء، ينهمك القاطنون الجدد بتجهيز موائل لفترات طويلة المدى.
((مقبوس : “غيرت التعديات ملامح المدن اﻷثرية بما في ذلك معابد، كنائس، وبقايا أديرة ومقابر، بعد أن صمدت في وجه الحروب والزلازل خلال الفترتين الرومانية والبيزنطية ))
هذه التعديات غيّرت ملامح المدن اﻷثرية بما في ذلك معابد، كنائس وأحواض وحمامات عمومية وبقايا أديرة ومقابر، وذلك بعد أن صمدت في وجه الحروب والزلازل خلال الفترتين الرومانية والبيزنطية بين القرنين الثاني والسابع بعد الميلاد. كوّنت الأسر النازحة مجتمعاً جديداً مؤقتاً، أُجبرت عليه بسبب الحرب التي لا ترحم، لكن على حساب إرث سورية الحضاري وذاكرة التاريخ.
ثمّة عائلات أقدمت على تقسيم قصور أثرية إلى غرف ومنافع متعددة. فالقصر الأول في منطقة سرجيلا، والذي يتميّز بصالونه الكبير، تعرّض للتقسيم إلى صالون ضيافة وعدة غرف بما يناسب عدد أفراد العائلة القاطنة، وفق رب الأسرة أبو سالم. وشيّدت عائلة أخرى غرفاً جديدة من الإسمنت داخل المواقع الأثرية وطلت جدرانها الحجرية بالطين.
ولم تسلم جدران الكنيسة الآرامية المتميزة بهيكلها الكامل في منطقة سرجيلا من الطلاء المنفّر. تقطن هذه الكنيسة بقايا عائلة كان عائلها وابنته الصغرى قتلا بصاروخ قذفته مقاتلة تابعة لقوات النظام السوري. تلك المأساة دفعت مَن بقي على قيد الحياة منها للنزوح إلى هذه المناطق وتأهيل ما يمكن للسكن، حسبما تقول أم مرهف.
وتضيف هذه الخمسينية التي تقطن الكنيسة مع من تبقى من عائلتها: “وضعنا الطين لصد دخول الهواء لهذه الأبنية التي نعيش بداخلها، كونه لا يوجد لدينا خيار ثان. نحن لا نستطيع العودة لبيوتنا المهدمة بسبب قصف الطيران”.
شملت التعديلات غير المسبوقة فتح أبواب جديدة وإغلاق أبواب كانت قائمة، لكي تتلاءم مع احتياجات العائلات السكنية، حسبما لاحظ معدا التحقيق. إذ أقدمت عائلة بديع عبود على فتح باب بالواجهة الأمامية للبيت الأثري من طرف الطريق العام في منطقة (شينشراح)، بحسب أحد أفرادها. هذا التعدي أدى إلى تغيير معالم البيت الأثري.
البارة… تكسير وتجارة
في بلدة البارة الأثرية، أقدم قاطنون على تكسير المدفن الملكي بهدف بيع قطعه الأثرية. يتميّز هذا المدفن بجمالية وزخرفة فريدة، وهو من أهم المدافن الملكية في العالم، بحسب تشخيص عالم الآثار الفرنسي جورج تات في مجموعة دراسات قدمها لجامعة باريس، الأولى تحت عنوان: “القرى المنسية في شمال سورية”.
وتستخدم حجارة هذه المواقع في بناء ملحقات إسمنتية، بحسب ما ورد في دراسات هذا الأستاذ المتخصص في تاريخ سورية والعصر البيزنطي. ووثّق أيضاً المناطق المستباحة، ومنها المدفن الملكي، باعتباره طرازاً معمارياً فريداً حافظ على شكله ومحتوياته منذ القدم.
إلى ذلك، رصد معدا التحقيق تكسير ثلاثة قبور ضمن الهرم الملكي بشكل كامل. (الصور المرفقة قبل تكسير المدفن الملكي وبعده). –
المجلس البلدي الثوري
ممدوح النصوح، رئيس المجلس المحلي لبلدة البارة التابع للحكومة السورية المؤقتة، يقول لـ”العربي الجديد”: “إن البلدية رصدت عدة انتهاكات للمناطق الأثرية في بلدة البارة، وسرجيلا”، التابعة إدارياً لبلدة البارة. تتنوع التعديات بين تعرّض الآثار لقصف قوات النظام السوري وإنشاء مخيم للنازحين ضمن آثار سرجيلا، ما شوّه الجدران وأدخل إلى الأبنية العتيقة (شوادر) وإنشاءات من الطين. “ولدى مراجعة هؤلاء النازحين، أخبرونا أنه لا يوجد لديهم سكن بديل عن بيوتهم التي دمرت نتيجة القصف المباشر”، بحسب ما يقول النصوح، قي مقابلة مع معدي التحقيق.
أقدمت عائلات على تكسير عدد من الحجارة الضخمة في المنطقة القريبة من سرجيلا، وتجريف الأراضي في محاولة لاستصلاحها، بعد تحطيم الأبنية ضمن أراضٍ زراعية تبعد عن البلدات الأثرية نحو كيلومترين، في محاولة للبقاء على قيد الحياة
شينشراح
في موقع شينشراح الأثري، رصد معدا التحقيق تغييراً في ملامح الموقع من خلال عمليات رصف طرق ضمن المنطقة الأثرية بهدف وصل مخيمات النازحين، حيث يقدم القاطنون الجدد على تكسير عدد كبير من الحجارة لشق الطرقات.
وأقدم صائدو نفائس على تقطيع حجارة ضخمة تتشكل منها البيوت الأثرية إلى حجارة صغيرة ثم بيعها بدون رقيب أو حسيب.
في مارس/ آذار 2013، اضطرت منظمة اليونسيكو لإدراج هذه المدن إلى جانب خمسة مواقع أثرية داخل سورية: في حلب، دمشق، بصرى، تدمر وقلعة صلاح الدين ضمن لائحة المناطق الأثرية المهددة بالزوال. وجاء ذلك القرار بعد عامين على تصنيفها ضمن المعالم الثقافية على لوائح اليونيسكو للتراث العالمي.
((مسؤول في جبهة النصرة “عندما يتم رصد أي اعتداء يتم تنبيه الأهالي بعدم تكرار الأمر. لكن لا يمكننا التواجد بشكل مستمر في هذه المناطق، بل نقوم قدر المستطاع بمنع التخريب )) |
رامي دياب، شاب ثلاثيني يعيش مع أفراد عائلته في بيت أثري بعد أن دمّر منزله في حي السلام ببلدة كفرومة القريبة من معرة النعمان/ ريف إدلب بفعل قصف طيران النظام السوري. أقدم رامي على تقسيم قصرأثري يعود للحقبة البيزنطية يطلق عليه (قصر الدير)، وهو يتميّز بجمالية طرازه المعماري واحتفاظه بهيكله كاملاً، بحسب أحد المخطوطات القديمة. يقول رامي إنه أحال هذا القصر إلى مقهى بعد أن وضع به طاولات وكراسٍ بلاستيكية ليوفر “ملاذاً للشباب”.
يزيد الطين بلّة أن عمليات الطهي وتسخين المياه باستخدام الفحم والحطب تتم ضمن المباني الأثرية أو بجانبها، ما يتسبب في تشققات وتشويه لهذه المباني. إذ رصد معدا التحقيق تفسخات في عدد من الجدران بسبب إشعال النيران بجانب الحجارة المبنية منها هذه البيوت والقصور الأثرية في المنطقة.
إدلب – على الإبراهيم، فراس فياض
العربي الجديد