بداية الحكاية:
بدأت القصة في سنة 661 م عندما أصدر الخليفة الراشدي عمر بن الخطاب أمرا بتعيين معاوية بن أبي سفيان واليا على الشام، هذا الأمر الذي غير تاريخ دمشق،القرار الذي ساهم بنقل العائلة الأموية من الحجاز إلى دمشق، حيث سيحكمون ما يقارب 100 سنة. ولكن قبل ذلك، دخل المسلمون بلاد الشام بعد الانتصار في معركة اليرموك، كانت دمشق ثاني المدن التي تقع تحت سيطرة العرب المسلمين بعد بيت المقدس، دخلت جيوش الفاتحين الجدد أرض دمشق ولم يحملو في أيديهم أي منجز حضاري حقيقي يفروضوه على الشعوب التي سيقابلونها، كانت الهوية الحضارية للعرب في شبه الجزيرة العربية شبه خالية من الشخصية الثقافية فلولا الشعر والأنساب ما كان للعرب أي علم يعرفونه أو يفخرون به، بيد أن دمشق هي التي أثرت عليهم وغيرت من سلوكهم بشكل كامل.
ويقول الدكتور يوسف العش وهو أحد أهم المؤرخين لعلم المكتبات في الحضارة الإسلامية ويكاد يكون أهم محقق مخطوطات في القرن العشرين في كتابه: «عندما شرع المسلمون في فتوحاتهم لم يكن معهم من الكتب المخطوطة سوى القرآن الكريم ثم وجدو أنفسهم تجاه شعوب مثقفة في أيديها كتب تسترشد بها في حياتها العلمية والأخلاقية على السواء»
كانت دمشق يونانية الفلسفة والهوى، تفيض شوارعها وأزقتها بأفكار وفلسفات الأغريق، لم يكن الدمشقيون الأوائل – على عروبتهم – كحال من قدم من العرب المسملين من جاهلية بل كانو أولي حضارة وثقافة واسعة، الشيء الذي جعل معاوية بن أبي سفيان يتأثر بأساليب الحياة وخصوصا أنه وجد في بيوت الدمشقيين كتب وسجلات تفيض بالعلوم والمعارف.
يمكن تقسيم المراحل التي مرت بها المكتبة إلى ثلاثة مراحل أساسية:
أولا: مرحلة المكتبة الشخصية
ثانيا: مرحلة مكتبة قصور الخلفاء
ثالثا مرحلة المكتبة العامة
أولا: مرحلة المكتبة الشخصية:
كان العرب قديما على دراية ببعض العلوم مثل الطب الفلك والرياضيات وهذه الدراية عبارة عن معرفة قائمة على الملاحظة والتجربة المباشرة الشيء الذي دعا معاوية إلى إقامة المناظرات الأدبية في صالات خصصها لمثل ذلك في قصره الشهير قصر الخضراء في دمشق، ولكن لم يكن يسمح بدخولها إلا لفئة معينة. وكانت تقام فيها مناظرات أدبية ويقوم بتسجيلها في سجلات رجال خصصهم الخليفة لهذه المهمة ومن هنا تأسست أول مكتبة أموية خاصة كانت البذرة أو النواة الأساسية لمكتبتنا حيث اتخذت من قصر الخضراء مقرا لها لا يطلع عليها إلا الخليفة نفسه
ويقول المسعودي في هذا: «كان معاوية ينام ثلث الليل ثم يقوم فيقعد فيحضر الدفاتر فيها أخبار الملوك وأخبارها والحروب والمكائد فيقرأ ذلك عليه غلمان له مرتبون وقد وكلوا بحفظها وقراءتها»
أهم المؤلفات في عهد معاوية أودعت في المكتبة(وكان أغلبها يأمر الخليفة مؤلفيها بجمعها وتصنيفها في مجلدات:
وفي سنة 680 م توفي الخليفة، وتولى ابنه من بعده الخلافة، ولكن بعيدا عن السياسة وعن ما دار في ذلك الزمان كان هناك أمير أموي لا يعبئ بكل هذه الأمور ولا يقيم لها بال، شاب ولد في دمشق بعيدا عما تلده صحاري شبه الجزيرة من نزاع وخلاف، الفتى الذي تربى في دمشق وامتهن الجلوس مع العلماء والأدباء لم يرغب بالحكم وعف عنه الأمر الذي جعله يبرز في مجالس جده الخليفة معاوية ويبرز من سن صغيرة.
كان اسمه “خالد بن يزيد” تعلم اللغات السريانية واليونانية وأتقنها وقرأ في فلسفة الإغريق وتأثر بها كثيرا حتى أنه نهل من أهل دمشق وصناعها علم الصنعة والصباغ (الكيمياء) وكان ابن النديم يقول عنه: “خالد أول من أدخل علم الصنعة إلى العالم الإسلامي” ومن شغفه في الكيمياء كانت داره في دمشق مركزا للنقل والترجمة كما أكد العديد من المؤرخين والروات، فكان يترجم كتب الكيمياء والرياضيات والفلسفة من اليونانية إلى العربية ليكون بذلك أول من قام بالترجمة ونقل العلوم إلى العربية في تاريخ المسلمين كما عكف خالد على جمع كتب علوم الأولين
ورث عن خالد عن جده قصر الخضراء والمكتبة، فباع القصر إلى عبد الملك بن مروان حوالي 680 م، وحفظ المكتبة في داره يروي ابن جلجل في طبقاته أن كتاب أهران بن أعين القس في الطب ترجمه خالد بن يزيد إلى العربية في عهد مروان بن الحكم
وقال الجاحظ: « كان خالد أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء» وقال أيضا: « وكان خالد أول من أعطى الترجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء أهل كل صنعة وترجم كتب النجوم والطبوالكيمياء والحروب والآلات والصناعات» أما ابن المديم فذكر في كتابه الفهرست « هو أول من تُرجم له كتب الطب والنجوم وكتب الكيمياء»
ويجمع العديد من المؤرخين – على قلة ما وصلنا – أن خالد بن يزيد هو من أسس لهذه المكتبة وللعظمة التي ستصل لها لاحقا، فصنف فيها من العلوم الوفيرة وأخرجها من حواجز وجدران الدين والشعر والتاريخ، ليضع فيها ولأول مرة كتب العلوم الحديثة في ذلك الزمان وينشأ لها المجلدات ويأسس لما نسميه نحن اليوم بالمحتوى المكتوب باللغة العربية، كان خالد قد أدرك مدى أهمية أن تكتب العلوم باللغة العربية الشيء الذي لا شك فيه أثر على صديقه ورفيق دربه عبد الملك بن مروان في إطلاق فكرة تعريب الدواووين وضرب الدينار العربي، ووهذا إن كان قد سجله التاريخ نقطة إيجابية لعبد الملك بن مروان إلا أنه في الحقيقة صاحب هذه الفكرة في تعريب العلوم والأقتصاد هو خالد بن يزيد ولكن لأنه لم يكن خليفة أو ذو شأن في السياسة أهلمه التاريخ تماما.
وقبل أن نختم هذه المرحلة نستذكر أشهر أقوال خالد بن يزيد عن نفسه فكان دائما ما يردد هذه القول: “ما أنا من العلماء ولا من الجهال، لم أصنع سوى أن جمعت الكتب”
انتهت هذه المرحلة من عمر المكتبة بوفاة خالد بن يزيد في دمشق في سنة 681 ميلادية لتنتقل المكتبة من بعده إلى مرحلة جديدة وهي مرحلة قصور الخلفاء حيث أولاها الخليفة عبد الملك بن مروان اهتماما بالغا فوضعها في قصر الخلافة متاحة لكل من يحضر مجلس الخليفة ومن أهل القصر، من هنا لن تكون المكتبة بعد اليوم خاصة بفرد بل ستصبح لخاصة المجلس من حضره من الفقهاء والأمراء والعلماء حيث ستخطو المكتبة أول خطواتها.
ثانيا: مرحلة قصور الخلفاء:
مما لا شك فيه أن الأخبار كانت دائما ما تصل إلى الخليفة عن مكتبة ضخمة في قصور ملوك ذلك الزمان وما تصل إليه الحضارات المجاورة من تقدم علمي ومعرفة لا يحظى بها خلفاء الأمويين ومع انتقال المكتبة إلى قصر الخليفة كانت تتلقى الكتب التي ترد من البلاد التي تدخلها الجيوش كما كانت تتسلم الكتب التي يضعها ويودعها العلماء المعروف في عالمنا اليوم بأسم “الإيداع الذاتي
تطورت في عهد الخلفاء من بعده عبد الملك بن مروان والوليد بن عبد الملك وكان الاهتمام واضحا في العلوم والآداب وجمع المخطوطات في هذه المكتبة كما ازدهرت في عهده أيضا الصالات والمناظرات الأدبية ووصلت إلى أوجها في عهده
ويذكر الدكتور عبد الستار الحلوجي هذه المكتبة وعظمتها في قصور الخلفاء فكانت مجالس الخلفاء والأمراء حول هذه المكتبة «بمثابة حلقة السمر والمناظرة والمحاضرة»
اكتملت المكتبة في عهد الوليد بن عبد الملك لما احتوته من مجوعة كبيرة من المخطوطات المترجمة للعربية بل ونزيدك من الشعر بيتا فقد عين لها الخليفة خازنا (أمين مكتبة) وناسخ وأصبح لها سجل بالمقتنيات
في هذه الأثناء وفي عهد الخليفة الوليد بن عبد الملك صدر أمر من قصر الخلافة، أمر ببناء صرح يحبه كل دمشقي ويفخر به، إنه أمر بناء المسجد الكبير مسجد بني أمية المعروف بين الدمشقين بأسم “ الجامع الأموي” ، كان البناء كبيرا شاهق الارتفاع ويراه القاصر والداني مميزا بمإذنته المرتفعة مإذنة العروس، بني المسجد حوالي سنة 715 م
وما إن وصلت دفة الحكم إلى عمر بن عبد العزيز حتى بدأ عهد جديد في حياة هذه المكتبة، الحقيقة أنها أصبحت كبيرة جداوبلغت من عددا من الخزانات وأصبح الخليفة عمر بن عبد العزيز يخشى عليها من أن تصبح بلا جدوى وخصوصا أنها موضوعة لخاصة القوم وليس لعامتهم، كان من الواضح أن رؤوية الخليفة واسعة الأفق حيث أراد أن يصل العلم إلى عامة الناس حيث يعز على غير القادرين اقتناء الكتب وقرائتها وهم قد أصبحو كثر وخصوصا بعدما رأه المجتمع من حضارة بلاد فارس والروم حيث والتطور الملحوظ التي وصلت إليه هذه الحضارة، كان لابد من وجود مكتبة عامة يتجمهر حوالها عامة المثقفين الأمر الذي ترافق مع الاستقرار الاقتصادي الذي شهدتها الدولة في عهد الخليفة عمر بن عبد العزيز فكان لابد للعلم أن يصل إلى درجة من الانتشار لم يبلغها من قبل.
المرحلة الثالثة: مرحلة المكتبة العامة:
وصل الخليفة عمر بن العزيز إلى قناعة بضرورة إخراج هذه المعرفة العظيمة إلى عامة الناس، كان الكثير من أعيان بني بني أمية يرونها مجاذفة كبيرة يقوم بها الخليفة، فهي إرث أموي ووضعها في مكان عام هو بحد ذاته مخاطرة بضياع مجد الاسرة، لكن الخليفة كان يرى في ذلك تقربا إلى الله، فنشر العلم أمر يجزى عليه المسلم.
كان من الملاحظ انتشار حلقات الكتاتيب والتعليم في المسجد الكبير حيث يكثر المؤدبون والفقهاء وبما لا يدع مجالا للشك بأن المسجد سيغدو مركزا ثقافيا يحج إليه كل طالب علم. فوقع الاختيار على المسجد الأموي كي يكون الحاضنة الجديدة لهذه المكتبة
وبقيت المكتبة في المسجد الكبير حتى حين انتقل قصر الخلافة من دمشق إلى الرصافة في عهد هشام بن عبد الملك لم يتغير مكان تلك المكتبة إلا أنها بدأت وبشكل غريب لم تنفصل على الإطلاق عن البيت الأموي رغم أنها مكانيا قد انفكت من قصورهم ولكن كيف ذلك لماذا بقيت مرتبطة بهم كل هذا الارتباط؟ الإجابة بسيطة وهي نظرة الناس والمجتمع فقد بقي الخلفاء يولونها اهتماما ماليا فقط أي أنه لم يعد يتم تزويدها بالكتب وبالتالي لم تتطور المكتبة كثيراوبقيت على حالها مع العلم أن التاريخ يذكر أن الوليد بن يزيد قد تبرع بكتبه إلى المكتبة ولكنها لم تكن إلا كتب أدبية لا تبتعد عن الشعر والأنساب
حيث دب الضعف في الدولة الأموية وخصوصا بعد هزيمة الجيوش في المغرب أثناء القتال مع البربر وضياع هيبة الخلافة بعد تولي الوليد بن يزيد الحكم منذ وفاة الخليفة هشام بن عبد الملك إضافة إلى ظهور دعوة العباسيين.
عدم تطور المكتبة وتدهور الأحوال في شتى البلاد جعل الناس تنصرف عن العلم وتهتم بملاحقة أمور السياسة والتقلبات، ليلحق المكتبة إهمال شديد من قبل الجميع من الناس والخلفاء وحتى المؤرخين الذين لم يذكرو ولا بكلمة واحدة ما حل بهذه المكتبة، ما جعل النهاية وصوغها غير ممكنين فعليا.
بحثنا كثيرا بين الكتب والمصادر وحققنا في الموضوع مطولا،فمنذ شهر حزيران 2013 لم نترك مصدرا تناول المكتبة إلا وقرأنا فيه ولكننا دائما ما كنا نصل إلى نهاية مسدودة، حتى خلال زيارتنا للمسجد في شهر شباط 2014 لم تترك لنا التحديثات والتطويرات على المسجد أي أثر لتلك المكتبة على الأقل رمز على الجدران أن الخزانة كانت في مكان ما.
ولكننا لم نستلسم بل واصلنا البحث ولعلنا ومن خلال قرائتنا لتلك الحقبة وصلنا لثلاثة قرائن تقودنا لنهاية محتملة لتلك المكتبة وما آلت له:
– أحرقها العباسيون:
عندما دخلت جيوش العياسيين مدينة دمشق أحرق العباسيون بيوت الأمويين وقتلو كل أموي قبضو عليه ولم يبقو للأمويين ذكرا، ولعل هذا ما جعل الكثير من أخبار تلك الحقبة لا تصل إلينا، ولعلها تكون نهاية منطقية وخصوصا بعد ما أحرقو دور الأمويين وخزائن الكتب الموجودة فيها والرسائل والدواووين وكل ما يرتبط بالأمويين فلما لا يكونون أيضا قد أحرقو هذه المكتبة لما ترمز لإنجازات الأمويين
– لم تحرق المكتبة ولكن بقيت حتى زمن هارون الرشيد حيث ضمها إلى مكتبة بيت الحكمة الشهيرة، ويقبل العديدين هذا الرأي ومن بينهم الدكتور يوسف العش حيث أكدت كل المصادر أن هارون الرشيد أتى بالكتب من كل البلاد وجمعها في مكتبة بيت الحكمة في بغداد، ولعل النهاية هنا لا تختلف كثير عن القرين السابق، فقد أحرقت المكتبة وأتلفت عندما دخل المغول بغداد سنة 1258 م
– وهنا أيضا لا تختلف النهاية كثيرا، حيث من الممكن أن تكون المكتبة قد بقيت حتى زمن المغول أيضا حين أحرق المغول المسجد الأموي ومن الممكن أن تكون أحرقت معه
لعل سرها سيبقى دفينا حتى موعد آخر ولعل غموض مصيرها يضفي عليها طابعا مميزا ويكتنف في طياتها مغامرة مثيرة نحن متشوقون لخوض غمارها
ولكننا وصلنا لطريق مسدود، حيث أننا لم نجد أي دليل في الجدران والمكان على وجود خزانة كتب.
آخر ما انتهينا إليه أن المكتبة كانت – أغلب الظن – موجودة في ركنالخليفة أبي بكر الصديق لأهمية الركن وقدمه ولوجود مإذنة العروس قربه ولوجود أقدم محراب فيه فهو معروف للجميع أنه كان الركن الأكثر أهمية بالنسبة للأمويين.
ولكم نتمنى أن يكون هذا التحقيق مجرد خطوة أولى في طريق كشف اللثام عن حقبة تاريخية دفينة بين جدران المسجد الأموي في دمشق، تلك الحقبة التي ستبقى بإثارها الواضحة على دمشق وفلسفتها مهما تغير الزمان.
المترجمون السوريون الاحرار