زيتون – أسعد شلاش
اعتاد الصغير أن يغفو بنوم هادئ وهانئ وهو يسمع ويستمتع بحكاية من حكايا أمه الكثيرة والمثيرة، أهم هذه الحكايا التي حفرت في مخياله وتركت أثراً في وجدانه وما غادرته أبداً، هي تلك الحكاية التي أخبرته أمه أنها بدورها حفظتها عن أمها منذ أن كانت طفلة، وهذه الحكاية ما غادرت وجدانها أبداً، هي حكاية تلك العصفورة التي كانت الأم تسميها (عصيفرة الشوك)، وهي عصفورة رشيقة صغيرةً جميلةً غنمها السلطان في أحدى رحلات صيده ووضعها في قفص مذهب أنيق، علقه في أبهى غرف قصره الكبير الفخم، لكن العصفورة بدأت تشكل مصدر قلق للسلطان، فهي لا تتوقف عن التغريد ليلاً نهاراً مما صار يزعج السلطان ويعكر عليه ليلاً صفو المنام.
احتار السلطان في أمرها، جمع حاشية قصره ورجاله وأخبرهم بما يعانيه من أمر هذه العصفورة، وطلب منهم أن يجدوا حلاً لأمرها، ارتأى البعض أن يتم تغير القفص بآخر أكبر منه وأجمل، وقال البعض أن تغير اللقط التي تتناوله هو الأهم ويجب أن يكون أفضل ومنوعاً أكثر، والبعض أشار بتغيير مكان القفص، وهكذا تبارت حاشية السلطان ورجاله وما يدعون أنهم حكماء قصره، كلٌ يحاول أن يجد حلاُ يريح السلطان عله ينعم بنوم هادئ.
جرب السلطان كل ما أشاروا به، إلا أن ذلك كله لم يجد نفعاُ، بل على العكس، إزداد تصويت العصفورة وصار يأخذ طابعاُ شكوياُ أكثر، كان الحل الأخير عند بعض رجاله أن يفتح القفص ويتركها تطير فالعصافير إجمالاً، وعلى ما يبدو هذه العصفورة بالذات، لاتدرك قيمة النعمة التي هي فيها، بل ولا تليق بها هذه الأبهة والفخامة، حتى أن البعض أشار عليه أن يقتلها انتقاماً منها على ما تسببه لسلطانهم من إزعاج، لكن السلطان ركب رأسه وأصر أن يعرف السر وراء تصويت العصفورة، وازدياد طابع النحيب والشكوى فيه، أخبرته زوجته أنها تعرف عجوزاً حكيمةً تستوحي ما تغرد به الطيور، وأنها الوحيدة التي من الممكن أن تساعده في ذلك، بعث السلطان برجاله وراء العجوز، حدثها السلطان بما يريد، جلست بجانب قفص العصفورة، استمعت عدة مرات إلى نحيبها،
ابتسمت العجوز وأخبرت السلطان أن هذه العصفورة تعاني من ألم الغربة عن وطنها وهي في تصويتها دائماً تنطق بلغتها (وطناه وطناه)، اندهش السلطان مما سمع وحدث العجوز عن أي وطن تتحدث وهل هنالك في كل هذه البقعة من الأرض أجمل وأفخم من هذا القصر، ثم إن قفصها من الذهب الخالص وما تتغذى به لا يمكن أن يحلم به أي عصفور.
فكر السلطان في أمر هذه العصفورة وخطرت له فكرة عزم على تنفيذها، استدعى رجاله، أمرهم بالانتشار في أرجاء السلطنة بعد أن أخبرهم أنه سيطلق العصفورة من القفص وعليهم مراقبتها وإبلاغه أين سينتهي بها المطاف، طارت العصفورة بعيداً تتبعتها عيون رجال السلطان، حتى استقرت مساءً في مكان ما، اصطحب الرجال سلطانهم إلى حيث هي، دهش السلطان عندما شاهدها تقف على نبتة صفيرة بالقرب من الشاطئ وتغط في نوم عميق وكلما هبت الريح علا الموج واقترب من الشاطئ وغمر النبتة تبلل جسم العصفورة مما اضطرها لتنفض ريشها وتعود لتغط في نومها، راقبها السلطان ساعات على هذه الحالة وأخيراً عاد إلى قصره يأخذه الذهول، استدعى العجوز وحدثها عما شاهده بعد أن أطلق العصفورة وهل من المعقول أن تكون هذه النبتة على الشاطئ والتي هي وطن العصفورة أجمل وأكثر أمناً من قصره؟
ابتسمت العجوز وقالت: بالتأكيد هي ليست أجمل، لكنها بالنسبة لها هي الوطن، وهي أجمل من كل ما هو جميل، كما أنها قد نالت حريتها، فالوطن مزروع في أرواحنا وكذلك الحرية، وهما كما الذكر والأنثى يكمل بعضهما الآخر، وبينهما قصة عشق أزلية أبدية.
سألها السلطان مقاطعاً: وأيهما الأهم؟
أجابت العجوز: أولا الحرية وأولا الوطن، الحرية هي الأم والوطن هو الأب، وبضياع أحدهما تغدو الروح يتيمة، فالوطن بدون حرية عبارة عن سجن كبير تهدر فيه إنسانية الإنسان، والحرية بدون وطن وإن كانت في أجمل الأماكن وأفخم القصور هي بمثابة رصيد كبير وضخم من عملة انتهت صلاحيتها وليست قابلة للتداول، فخيمة في وطن حر أغلى وأجمل من أفخم القصور في الغربة أو في وطن يحكمه مستبد، فكيف والعصفورة قد فقدت وطنها وحريتها؟.