أستعيد مشهدا من الحياة أنا مع صديقي ثانية نغذ الخطى في الظلام نحو المنزل حيث تقيم مود والصغيرة، صديقي يقول إن عمل ذلك شيء عقيم وسخيف لكني بما أن هذه هي رغبتي فسيتابع الأمر معي لديه مفتاح الباب الأمامي يواصل تأكيده لي أن لا أحد في البيت كنت أريد أن أرى كيف تبدو غرفة الطفلة، لقد مضى زمن طويل منذ أن رأيتها وأخشى أني عندما أراها في المرة القادمة لن تعود تعرفني، أسال صديقي كيف أصبح حجمها؟ ماذا تلبس؟ كيف تتكلم؟ وما الى ذلك
صديقي يجيب بخشونة وفظاظة وكالعادة لا يرى من داع لهذه الزيارة،
ندلف الى المنزل وأفتش الغرفة بدقة، ألعابها المتناثرة في كل مكان تثير اهتمامي، أبكي بصمت وأنا أتفحص ألعابها، بغتة أرى دمية قديمة محشوة محطمة ملقاة على أحد الرفوف في الزاوية، أدسها تحت إبطي وأشير الى صديقي أن نغادر المكان، لا أستطيع أن أتفوه بكلمة، جسدي كله يرتعش.
عندما استيقظت في اليوم التالي كان الحلم ما يزال ماثلا في مخيلتي، وكالعادة ارتديت ثيابي، قميص متهرئ من الدونيم بنطال ممزق حائل اللون، حذاء بال لم أكن قد حلقت ذقني منذ يومين كان رأسي ثقيلا ولم أكن أشعر بالارتياح، كان الطقس قد تغير في الليل، هبت رياح خريفية باردة منذرة بهطول أمطار غزيرة، خائر النفس رحت أقتل ساعات الصباح.
بعد الغداء ارتديت سترة صوفية مثقوبة عند المرفقين وأملت قبعتي فوق أذني وخرجت، أصبحت مهووسا بضرورة أن أرى الطفلة ثانية مهما كلف الأمر.
خرجت من محطة قطار الأنفاق على بعد مسافة قليلة من المنزل، وبعينين مفتوحتين بحذر توجهت صوب منطقة الخطر، اقتربت من المنزل حتى وصلت الى المنعطف على بعد نصف شارع، فقط وقفت هناك فترة طويلة من الزمن، عيناي مثبتتان على البوابة، متمنيا أن أرى الصغيرة تظهر في أي لحظة، أخذ البرد يشتد رفعت طرف ياقتي وأنزلت قبعتي الى الأسفل فوق أذني، رحت أذرع الرصيف جيئة وذهابا أمام الكنيسة الكاثوليكية الجنائزية المشيدة من حجارة بلون الأشنة الخضراء.
لم يكن ثمة أي مؤشر على وجودها، بقيت على الرصيف المقابل من الشارع ورحت أسير بخطى سريعة أمام المنزل تغمرني أمنية أن أرى إشارة تدل على وجود حياة داخل المنزل، لكن الستائر كانت مسدلة عند الناصية توقفت وبدأت أذرع الرصيف ذهابا وإيابا مرة أخرى، استمر هذه الأمر خمس عشرة دقيقة.. عشرين دقيقة ربما أكثر، شعرت بأني قميء وضيع خسيس مثل جاسوس ومذنب ذنبا لا يغتفر.
كدت أقرر أن أعود الى المنزل عندما اندفعت فجأة مجموعة من الأطفال عند الناصية البعيدة أمام الكنيسة، كانوا يركضون عبر الشارع يصرخون ويغنون، أصبح قلبي في حنجرتي، انتابني إحساس أنها بينهم لكن من المكان الذي كنت أقف فيه كان يستحيل علي أن أراها، غذذت الخطى الآن نحو الناصية الأخرى، عندما وصلت الى هناك لم أعد أرى شيئا منهم شعرت بالارتباك، وقفت هناك مثل روح تائهة لبضع دقائق ثم قررت أن أنتظر بضع لحظات أخرى، رأيت دكان بقالة على مسافة بضعة أبواب وراء الكنيسة، لعلهم دخلوا الى الدكان؟
بحرص شديد اتجهت بسرعة الى الشارع الفرعي وعلى مسافة لا تبعد كثيرا من الدكان وعلى الطرف المقابل من الشارع بالطبع، أسرعت ووقفت في أعلى الدرجات كان قلبي يخفق بشدة.
كنت واثقا الأن بأنهم دخلوا جميعهم الى دكان البقالة، لم تبتعد عيناي عن الباب لثانية واحدة.. فجأة أدركت أنني مرئي وأنا أقف هناك فوق قمة الدرجات، استندت الى الباب وحاولت أن أتوارى قليلا، ارتعشت لا من البرد بل من الخوف.. ماذا سأفعل إن رأتني؟ ماذا سأقول لها؟ ماذا يمكنني أن اقول؟ أن افعل؟ كنت في حالة من الفزع، كدت أتهاوى من فوق الدرجات وأعدوا هاربا.
في تلك اللحظة بالذات فتح الباب بقوة وخرج ثلاثة أطفال بسرعة، اندفعوا مباشرة نحو وسط الشارع، رأني أحدهم واقفا، فجأة أمسك الآخرين من يدهم وهرعوا الى داخل البقالة، اعتراني شعور بأن طفلتي هي التي فعلت ذلك، أشحت ببصري من الخوف لبضع لحظات محاولا أن أبدو غير مكترث أو مبال بسلوكهم كما لو كنت انتظر شخصا حتى يخرج من البيت في الطابق العلوي، عندما نظرت ثانية رأيت وجها صغيرا منضغطا على لوح زجاج نافذة الباب عبر الشارع، كانت تنظر إلي نظرت إليها طويلا وبثبات غير قادر على أن أميز إن كانت هي أم لا، انسحبت وأتت طفلة أخرى وراحت تضغط أنفها على اللوح الزجاجي ثم طفل آخر وآخر ثم تراجعوا جميعهم الى داخل البقالة، تملكني شعور بالفزع الآن.. كانت هي.. أصبحت واثقا من ذلك الآن، لكن لماذا كانوا خجلين هكذا أم أنهم كانوا خائفين مني، بدون أدنى شك كان يتملكهم الخوف، حين نظرت إلي لم تبتسم نظرت بإمعان للتأكد من أنني أنا أبوها ولست شخصا أخر،
فجأة أدركت كيف كان مظهري مشينا، رحت أتحسس لحيتي التي بدا أن طولها ازداد بوصة أخرى، نظرت الى حذائي والى أكمام سترتي اللعنة ربما ظنوا أني خاطف أطفال، خاطف أطفال!! لعل أمها علمتها أنها إذا صادفتني في الشارع فيجب ألا تنصت إلي:” اهرعي الى البيت فورا وأخبري ماما”.
كنت محطما ببطء وبألم ممض، كشخص مكسور مليء بالكدمات رحت اهبط الدرج وعندما وصلت قرب دكان البقالة فتح الباب فجأة واندفع منه الأطفال جميعهم.. ستة أو سبعة منهم أخذوا يجرون كأن الشيطان نفسه يلاحقهم عند المنعطف، رغم أن السيارات كانت تمر مسرعة استداروا وأخذوا يجرون نحو المنزل، منزلنا، وبدا لي أن طفلتنا هي التي توقفت في منتصف الشارع لثانية فقط وراحت تنظر حولها، بالطبع قد تكون واحدة أخرى، كل ما كنت واثقا منه هو أنها كانت ترتدي قلنسوة صغيرة مشذبة بالفراء، سرت متمهلا حتى المنعطف وقفت هناك دقيقة كاملة أحدق باتجاههم ثم هرعت بسرعة نحو محطة قطار الأنفاق.
يا لها من مصيبة قاسية طوال الطريق الى محطة قطار الأنفاق، رحت ألوم نفسي على غبائي أن أفكر أن ابنتي تخاف مني أن تهرب مني مذعورة يا له من شيء محزن.
في محطة الأنفاق وقفت أمام آلة البيع بدوت مثل متشرد منبوذ إن مجرد تفكيري بأني قد لا أراها مرة أخرى، أن أفكر بأنها قد تكون قد أخذت هذا الانطباع الأخير عني وأنها ستحتفظ به – أبوها قابع عند المدخل يتجسس عليها كخاطف أطفال – كان أشبه بفيلم مرعب رخيص.
لن أرى مود في حياتي ثانية إذا كان الأمر بيدي، أما بالنسبة للطفلة فاني أتضرع الى الله نعم أتضرع الى الله أن يمنحني فرصة أخرى، لا بد أن أراها وأتحدث إليها لكن متى؟ في يوم ما.. في اليوم الذي تستطيع أن ترى فيه الأشياء بمنظار أفضل، تضرعت الى الله أن لا تكرهني والأهم من كل ذلك أن لا تخشاني، انه لأمر فظيع جدا، لم أكف عن الدمدمة الى نفسي: “إني أحبك حبا جما يا صغيرتي أحبك كثيرا كثيرا”
جاء القطار وعندما انزلق الباب وانفتح رحت أنشج، أخرجت منديلا من جيبي ووضعته فى فمي، هرعت الى الممر حيث تواريت في إحدى الزوايا بأمل أن يغطي صوت العجلات الطاحن صوت نشيجي وبكائي،
لابد أني وقفت هكذا بضع دقائق لا أعي شيئا يدور حولي سوى بؤسي الممض عندما أحسست بيدٍ تلامس كتفي بلطف، كنت ما أزال أضع المنديل على فمي عندما استدرت، كانت سيدة في متوسط العمر متشحة بالسواد تنظر إلي وابتسامة مرهفة ترتسم على وجهها:
– يا عزيزي
بدأت بصوت هادئ رقيق
– يا عزيزي ماذا يمكن أن يكون قد حدث لك؟
عندها أخذت انتحب وغشت الدموع عيني وكل ما استطعت رؤيته غشاوة حنونة أمامي.
– أرجوك أرجوك قالت متوسلة حاول أن تتماسك
واصلت البكاء والنشيج ثم توقف القطار دخل بعض الركاب واشتد الزحام عند الباب
– هل فقدت عزيزا؟.. سألتني كان صوتها رقيقا في غاية النعومة
هززت رأسي موافقا ردا على سؤالها
– مسكين يا عزيزي أعرف كم هو مؤلم.. مرة أخرى أحسست بضغط يدها، كانت الأبواب على وشك الانغلاق فجأة رميت المنديل وشققت طريقي عبر الناس وخرجت صعدت الدرج جريا بأقصى ما بوسعي ورحت أمشي كالمجنون، بدا المطر يهطل أخذت أمشي تحت المطر مطأطأ الرأس، أضحك وأبكي أصطدم بالناس، دفعني أحدهم دفعة جعلتني أدور في مكاني وأقع لم أتطلع حولي تابعت سيري مطأطأ الرأس وحبات المطر تتساقط على ظهري، أردت أن يبللني المطر أردت أن أتطهر من جميع خطاياي نعم هكذا قلت في نفسي أتطهر من جميع خطاياي، أردت أن يبللني المطر حتى العظام ثم أطعن ثم يقذف بي في المجاري ثم تدهسني شاحنة ثقيلة، أن أمرغ في الأوساخ، أن أمحى، أن أباد الى الأبد.
مقطع من ثلاثية الصلب الوردي
هنري ميللر