تعيش القضية السورية متغيراتٍ دوليةً عدة، يتصدرها الإعلان عن الهدنة -أو وقف الأعمال العدائية- في سورية، والتي بدأت في من27 شباط/ فبراير الماضي، مستثنيةً داعش وجبهة النصرة، إذ جاء في نص الإعلان عنها: “ينطبق وقف الأعمال العدائية على أطراف الصراع السوري التي تعلن التزامها وقبولها بشروطه. وتمشياً مع قرار مجلس الأمن الدولي ذي الرقم 2254 وتصريحات المجموعة الدولية لدعم سورية، فإن الهدنة لن تنطبق على “تنظيم داعش”، “جبهة النصرة”، أو أي منظمات إرهابية أخرى يحددها مجلس الأمن”.
في ظل هذه المتغيرات، ثمة تخوفٌ من أن استمرار العمليات العسكرية والقصف للجماعات التي تم تصنيفها متطرفةً، قد يكون ذريعة لقصف المدنيين في عدد من المناطق السورية، وكان التخوف الأبرز متعلقاً بجبهة النصرة، وذلك لأنها لا تملك قطاعاتٍ محددة وواضحة، وبالتالي فإنها ستشكل الذريعة الأكبر لقصف المدنيين وقمع الثورة، التي قد تجد متنفساً لها لإعادة التأكيد على منطلقاتها وأهدافها في ظل غياب الطيران من الأجواء السورية.
مع انطلاق الهدنة، كانت هناك عودة للحراك السلمي في عدد من المناطق السورية، عودةٌ تقارب الحراك الذي عاشه السوريون عند انطلاق الثورة في العام 2011، حيث حمل المتظاهرون أعلام الاستقلال التي اتخذوها رمزاً لثورتهم، وأكدوا على مطالبهم بالحرية وإسقاط النظام.
من المظاهرات البارزة في الجمعة الأولى (4 آذار/ مارس 2016) والتي تلت الإعلان عن الهدنة، كانت مظاهرة في معرة النعمان، حملت روحًا حقيقيًة تعبر عن الثورة الأولى، حيث تعرضت المظاهرة لقمع من قبل عناصر جبهة النصرة في جمعتها الثانية (11 آذار/ مارس 2016)، وتلاها هجومٌ للنصرة على مقرات الفرقة 13 التابعة للجيش الحر المتواجدة في منطقة معرة النعمان، إضافةً لمنع المتظاهرين من حمل علم الثورة في مدينة إدلب، حيث حذرت اللجنة الأمنية التابعة لجيش الفتح٬ والذي تُعد “النصرة” أحد أعمدته الرئيسة، إلى جانب حركة أحرار الشام الإسلامية٬ حذرت من رفع أعلام الثورة السورية في المظاهرات، وأكدت أن “الراية المسموح رفعها هي راية جيش الفتح فقط وتحت طائلة المحاسبة”.
وفي الجمعة الثالثة لدخول الهدنة حيز التنفيذ (18 آذار/ مارس 2016)، لوحظ تغير في سياسة جبهة النصرة القمعية تجاه المظاهرات، إلى سياسة تلوين هذه المظاهرات بسوادها، من خلال إقحام عناصرها في هذه المظاهرات وهم يحملون رايات التنظيم، في محاولةٍ منهم لصبغ هذا الحراك بطابعٍ إسلامي مؤيد للنصرة.
مما يعود بالذاكرة السورية إلى التدرج في تسلٌّل هذه الرايات في مظاهرات الثورة بين عامي 2012 و2013، والذي كان له الدور البارز في إحداث تغيير جذري في الحراك واتجاهه الفكري، لصالح سيطرةٍ أكبر، وربما سيطرة مطلقة في عدد من المناطق، للقوى الإسلامية المتطرفة التي أنكرت الثورة، وحتى أهانت رموزها وكسرت رايتها وداستها، إضافةً لانتهاكاتٍ عدة من قبيل اعتقال النشطاء، وغيره مما لا يمكن الإحاطة به هنا.
في هذا الزحام٬ وعقب الجمعة الثالثة للهدنة٬ يطل علينا رئيس الائتلاف الوطني السوري السابق خالد خوجة عبر حسابه على تويتر قائلاً: “مشاركة جبهة النصرة في مظاهرة اليوم تحت علم الثورة خطوة إيجابية، وينبغي عدم تمكين المتربصين باستغلال هشاشة الوضع لاختراق التظاهرات وزرع الفتن”.
أعيدُ القراءة مراتٍ عدة، ليس بسبب تعقيد هذا التصريح وصعوبة فهمه، وإنما لصمتٍ رهيب يجتاح المرء ويسرق منه كل الكلمات التي تقال أمام هذه السذاجة المفرطة.
“جبهة النصرة تحت علم الثورة”، وكأن الخوجة لم ينظر يوماً إلى راية جبهة النصرة التي كُتِبَ عليها: جبهة النصرة – تنظيم قاعدة الجهاد، ولم يستمع لأي تصريحٍ أو يقرأ أي بيانٍ لجبهة النصرة على مدار السنوات الخمس السابقة، ولم يسمع أو يقرأ عن أي انتهاك مارسه عناصرها، ولم ولم ولم…
إن كان الخوجة كرئيسٍ سابق للائتلاف الوطني السوري، يتقدم إلينا بهذا الوعي السياسي٬ الائتلاف المفترض كممثل سياسي للثورة ولو ظاهرياً، فأي عتبٍ أو لوم يمكن أن نتقدم به لمن يعيشون تلك الظروف الاستثنائية داخل سورية على تلونهم أو خضوعهم، طالما أننا ورغم امتلاكنا لمساحات آمنة نوعاً ما خارج سورية، لا نستطيع امتلاك موقفٍ واضحٍ من جهة ما، ولا نستطيع تعرية كل من التصق بثورتنا وبات يقدم خطابه على أنه الصائن لهذه الثورة وسبب ديمومتها، كما ورد في إصدار جبهة النصرة الأخير، والذي عُنون بـ“ورثة المجد ٢” على سبيل المثال.
وأي خيبة نتقدم بها أيضاً لنساء معرة النعمان اللواتي خرجن بعد الجمعة الثانية للهدنة وصرخن بملئ حناجرهن “يسقط الجولاني”٬ “يسقط الظواهري”٬ “يسقط تنظيم القاعدة”٬ و“المعرة حرة حرة والجبهة تطلع لبرا”٬ وهل كان وصف “المتربصين” وزراع الفتن الذي ورد في تصريح الخوجة موجهاً لهن؟!
ويبقى السؤال قائماً حول المنظور الذي يستطيع من خلاله الخوجة رؤية “النصرة تحت علم الثورة”، وقد بدا واضحًا للجميع السوادُ الذي غطى عددًا من المظاهرات في كثير من نقاط الحراك٬ وهذا ما تؤكده الجمعة الرابعة للهدنة كمظاهرة إدلب وعدد من المناطق والتي كان لحزب التحرير دور فاعل فيها. حزب التحرير هو تكتل سياسي إسلامي يدعو إلى إعادة إنشاء دولة الخلافة الإسلامية وتوحيد المسلمين جميعًا تحت مظلة دولة الخلافة، لتضع الخوجة وغيره ممن يصر على اللاموقف٬ أمام استحقاق الراية الواحدة التي ابتلعت اللون الآخر٬ إضافة لغياب كامل للمظاهرات في مناطق أخرى كانت حاضرة في الجمع الثلاث الأولى للهدنة.
وهنا نعيد السؤال للخوجة هل نجح “المتربصون باستغلال هشاشة الوضع لاختراق التظاهرات وزرع الفتن”؟
يعود المشهد بنا سريعًا إلى تصريح لجورج صبرا في أواخر العام 2012، وقد كان حينها رئيساً للمجلس الوطني السوري، وهو اليوم أحد أعضاء الوفد المفاوض في جنيف، وقد جاء تصريحه حينها في مرحلة كانت محورية في توجه الثورة ومسارها، الذي كان يعاني من مخاضات عدة على الصعيد الفكري أولاً، وصعيد عسكري ومدني ثانياً، وقال وقتها: “بندقية جبهة النصرة هي بندقية شريفة”. بندقية شريفة لم تتمكن حتى اليوم إلا من أحد عشر فصيلاً على الأقل، في غالبيتها تنتمي إلى الجيش السوري الحر!
وبينهما تصريحان لعضو الائتلاف الوطني السوري المعارض ميشيل كيلو: “كفاكم خداعًا للناس باسم الخوف من المتشددين، أنا دخلت سورية وقابلت أعضاء جبهة النصرة وغرباء الشام ولواء أحفاد الرسول وأحفاد عائشة، وكل من تسمونهم أصوليين، وقاموا بمعانقتي والاحتفال بي، سورية لا تتجه للأصولية بل ستظل طوال عمرها معتدلة”.
ولعل التصريح الأقوى له كان: “جبهة النصرة لا أضعها مع داعش، فداعش تقول نريد خلافة إسلامية والذي لا يريدنا سنذبحه، إلا أن النصرة تتحدث عن نظام إسلامي انتخابي”.
هو الصمت عينه عن نظامٍ “إسلامي انتخابي” ينبئنا به كيلو عن النصرة، وكذلك عن العناق الذي يحدّ النظر باتجاهٍ واحد، ويترك للسواد أن يلف المكان باتجاهاته الثلاث المتبقية بكل هدوء وسكينة، وكلماتُ تصريحاتٍ تداعبه ليغفو برأسه على الاتجاه الرابع.
“وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد أُخرج من متاع بنيامين: ( إن يسرق، فقد سرقَ أخٌ له من قبل)، يتنصلون إلى العزيز من التشبه به، ويذكرون أن هذا فَعَلَ كما فَعَلَ أخٌ له من قبل، يعنون به يوسف، عليه السلام”.
في قصة يوسف عليه السلام ومن بعده بنيامين، اتُهم كل منهم بالسرقة، وكان هناك من دس الصواع في متاع بنيامين، ولف منطقة (حزام) إسحاق على خصر يوسف.
ولكن في تصريح الخوجة ومن قبله صبرا، وبينهما كيلو، يمكننا القول: إن كان قد صرح، فإن سياسياً قبله قد صرح، ولكن هل تم دس الكلام في فم كل منهم، أم أنهم نطقوا بكامل قواهم العقلية؟!
لعل من الغباء المفرط التعامل مع الثورة وبعد خمس سنوات على أنها كلمة مجردة وفقط٬ والإصرار على اختزالها بأنها ثورة لإسقاط النظام وحسب٬ ودون الخوض بأي تفاصيل أخرى في فضاء هذا السقوط المفترض٬ كشكل الدولة المرتقبة وأبعادها وغير ذلك كثير مما لا ينفصل ولا يقل أهمية عن إسقاط النظام٬ فقد بات الجميع اليوم يتغنى بالثورة٬ والجميع ليسوا كل متكامل!
الثورة كلمة وفكر٬ لايصح أحدهما دون الآخر.
موقع عرب 48 – اياد جرود